بدر الصالح ـ الرياض
شهد العالم في السنوات الأخيرة جملة من التحديات المعلوماتية ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية. سياسيًا، برزت ظاهرة النظام العالمي الجديد وهيمنة القوة الواحدة والتكتلات السياسية، اقتصاديًا برزت ظاهرة عولمة الاقتصاد وانفتاح السوق ومحاولات الهيمنة التجارية من خلال التكتلات الاقتصادية ونشوء الشركات القارية. اجتماعيًا، تتمثل التحديات المعلوماتية في مخاطر العزلة الاجتماعية والاستخدام غير الأخلاقي للمعلومات. ثقافيًا، برزت ظاهرة الانفتاح الحضاري أو عولمة الثقافة والدعوة لحوار الحضارات وتقبل الرأي الآخر، وتبعات ذلك على الخصوصية الثقافية للأمم.
وأخيرًا، تربويًا، شكلت التحديات المعلوماتية بأبعادها المختلفة منطلقًا لدعوات عديدة بضرورة إصلاح النظام التربوي بجميع مدخلاته وعملياته ومخرجاته، خصوصًا في ضوء عجز النظام الحالي عن مواجهة التحديات التي أفرزتها تقنية المعلومات والاتصال، وتحول العالم من مجتمع صناعي إلى مجتمع معلوماتي. لهذا، تتسابق كثير من الأمم لإصلاح نظمها التربوية بهدف إعداد مواطنيها لعالم موجه بالتقنية. وقد استقطبت الإصلاحات المعتمدة على (أو الموجهه بوساطة) التقنية دعمًا سياسيًا وماليًا ضخمًا في العديد من دول العالم المتقدمة والنامية على حد سواء، وشاعت خطط التقنية لإحداث التحول في النموذج التربوي. في الولايات المتحدة - على سبيل المثال - صرف حوالي (6.9) بليون دولار في عام واحد فقط (1999م) لتوفير الشبكات والحواسيب في مدارس التعليم العام. العالم يبحث عن تحول (جوهري) في النموذج التربوي: من نموذج موجه بوساطة المعلم (أو المدرسة) ومعتمد على الكتاب كمصدر وحيد للمعرفة، إلى نموذج موجه بوساطة المتعلم ومعتمد على مصادر متعددة. وإذا كان التربويون عمومًا يتفقون على ضرورة هذا التحول، إلا أن الجدل والاختلاف يتركزان حول الكيفية التي ينبغي أن تستجيب بها مدرسة المستقبل لإحداث هذا التحول.التربية على مفترق طرق، التربويون (والتقانيون)، كل منهم يحاول رسم معالم صورة مدرسة المستقبل من منظوره الخاص. ومع ذلك، تركزت أغلب وجهات النظر حول الإصلاح التربوي على استثمار معطيات التقنية المعلوماتية لإحداث التحول في النموذج التربوي. هذا اتجاه إيجابي ومرغوب، ولكنه غير مستغرب، فهو حدث يتكرر مع كل تقنية جديدة: الأفلام في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، والتلفاز في الخمسينيات والستينيات من القرن نفسه، والفيديو في السبعينيات، فالحواسيب الدقيقة في الثمانينيات الماضية، وأخيرًا، الشبكات في أواسط العقد الماضي وأوائل الألفية الثالثة. ولكن مع هذا كله، الذي يتغير في نظر الكاتب هو التقنية فقط، أما الفكر التربوي فيبقى تقليديًا في طرحه برغم مرارة وقساوة دروس الماضي البعيد والقريب الخاصة بتوظيف التقنية في التعليم. فالملاحظ أن التقنية دائمًا ما تحتل الصدارة في التخطيط التربوي، على حساب المنظور الشامل للتغيير التربـوي الذي يعنى بجميع مكونات المشروع التربوي. إن تأسيس الإصلاح التربوي المعاصر على التقنية ليس خطأ بحـد ذاته، ولكن الخطأ الذي يتكرر مع كل تقنية جديدة هو النظر إلى أن التقنية (وحدها) قادرة على إحداث التغيير المنشود، حتى أصبح أمرًا شائعًا أن «تملأ العربة بالعتاد قبل إعداد الحصان التربوي» وأصبحت التربية والتقنية مشكلـة ملاحقة مستمرة (فوستر، 1990م، ص 135) في غياب الرؤية الواضحة والتخطيط الاستراتيجي. ولذا لا غرابة أن تصبح المدرسة ميدانًا لتجارب مكلفة، القليل منها فقط كان له بعض التأثيرات الإيجابية، ولكنها تأثيرات لم تصل إلى جوهر المشروع التربوي (التعلم الصفي)، ولذا، لم تكن قادرة على إحداث تحول ملموس في النموذج التربوي.الهدف الرئيسي:نهدف هنا إلى إثارة عدد من القضايا (الجوهرية) المرتبطة بصميم دور التقنية في مدرسة المستقبل والعلاقة بينهما، وهما دور وعلاقة يكتسبان أهمية خاصة في نظرنا، لأن مفهومنا وتصوراتنا عنهما سيؤثران حتمًا بالكيفية التي نريد أن تكون عليها مدرسة المستقبل، وما يتبع ذلك من تأثير على جميع مكونات المشروع التربوي: طلابًا ومعلمين، منهجًا وتقويمًا، إدارة وإشرافًا. إن تحليل القضايا التي تثيرها هذه الورقة، يمكن أن يساعد على توفير قدر من الإجابات المطلوبة للإجابة عن أسئلة مهمة مثل: كيف ينبغي أن تستجيب المدرسة لتحديات المستقبل؟ وكيف ينبغي أن توظف التقنية في مدرسة المستقبل؟ وعلى أي أساس فلسفي أو نظري؟ وما دور المعلم والطالب فيها؟ ...إلخ.التقنية ومدرسة المستقبل: خرافات وحقائق:إن ما يحصل في علاقة التقنية بالتعلم المدرسي، كثيرًا ما يعتمد على تصورات خاطئـة (أو خرافات) حول ما هو مطلوب لتحقيق الأهداف التربوية المتوخاة من التقنية. فيما يأتي نلخص هذه القضايا من خلال ما سماه كليمان خرافات وحقائق، ولكننا نوسع هذا المنظور ونضيف إليه.الخرافة الأولى:التقنية جوهر مدرسة المستقبل، وستكون سبب التغير المطلوب لنهضة حقيقية في تقاليد التعليم والتعلم المدرسي، بغض النظر عن الأسس الفلسفية أو النظرية لافتراضاتنا حول الكيفية التي تحدث بها عملية التعلم.مدرسة المستقبل هي بيئة تعلم غنية بالمصادر، وستكون التقنية محركًا أساسيًا في عجلة التحول في النموذج التربوي، ولهذا تتميز الإصلاحات التربوية المعاصرة بأنها موجهة بالتقنية. ولكن التقنية وحدها لن تكون سبب التغير الاجتماعي المطلوب لنهضة حقيقية في التعلم المدرسي ما لم نغير افتراضاتنا حول التعلم وعلم التدريس ودور التقنية. إن التحول في النموذج التربوي يعتمد على دمج ثلاثة عناصر رئيسة تعمل حاليًا على توجيه وتشكيل هذا النموذج بدرجات متفاوتة تبعًا لمدى اندماج هذه العناصر: - ظهور تقنيات جديدة تختلف عما سبقها من تقنيات.- ظهور افتراضات جديدة حول التعلم.- ظهور مهارات جديدة للعمل والحياة في عصر المعرفة تختلف عن المهارات التي سادت العصر الصناعي.الافتراضات التقليدية حول التعلم (السلوكية) تشير إلى أن الطالب يدخل المدرسة كوعاء أو لوح فارغ يمكن أن تودع فيه أو تنقش عليه المعلومات. بناءً على هذا الافتراض، أصبحت حلقة التعلم هي: المثير ـ الاستجابة ـ التعزيز. التدريس المعتمد على هذا النموذج (مع أو بدون التقنية) هو تدريس مباشر (نقل معلومات)، وتحكم من المعلم حيث تكون مخرجات التعلم محددة مسبقًا وسهلة القياس لأنها إما صحيحة أو خاطئة. الافتراضات المعاصرة حول التعلم البنيوية تعتقد أن الطفل لا يأتي للمدرسة بعقل فارغ يودع فيه المعلومات، وإنما لديه خبرات سابقة يمكن البناء عليها. طبقًا لهذا التصور، نحن نتعلم من الخبرات التي نعايشها وتفسير هذه الخبرات بناءً على ما نعرفه، وإعطاء الأسباب المنطقية حولها، والتعقيب على الخبرات والمبررات المنطقية. هذه هي عملية تكوين المعنى أو بناء المعرفة التي تقع في قلب الفلسفة البنيوية. هذه الفلسفة تفترض أن المعرفة تبنى ولا تنقل، وأن بناءها ينتج عن نشاط، وأن المعرفة (التعلم) تحدث في سياق، وأن المعنى في عقل المتعلم، وأن هناك وجهات نظر متعددة حول العالم، وأن بناء المعرفة يتضمن تحكم المتعلم، ويتطلب تعقيب الفرد على ما تعلمه، وأن بناء المعرفة عملية تفاوضية اجتماعية، ولهذا، يمكن الشراكة بين المتعلمين في الإدراك وتكوين المعنى. إن مضامين ذلك لمدرسة المستقبل يعنى أن هذه المدرسة يجب أن تدعم التعلم الهادف الذي يتميز بأنه نشط وبنائي ومقصود وأصيل وتعـاوني، ولذا، فإن مدرسة المستقبل توفر بيئة تستخدم التقنية فيها لدعم التعلم الهادف من خلال تشجيع الطلاب على: بناء المعرفة (لا إعادة إنتاجها)، والحوار والمناقشة وليس استقبال المعلومات، وتوضيح ما تعلموه وليس التكرار، والتعقيب على ما تعلموه وليس توصيف ما تعلموه، والتعاون وليس المنافسة. باختصار، التقنية وحدها لا تكفي لإحداث تغيير جوهري في النموذج التربوي، كما لا يكفي إذا وظفت في ضوء الافتراضات التقليدية حول التعلم وعلم التدريس، لأن ذلك يكرس فقط خصائص النموذج الحالي. لهذا، فالدور القادم للتقنية المعتمد على أسس فلسفية ونظرية مختلفة كليًا عما عهده المجتمع التربوي، وحده سيكون حجر الزاوية في إحداث تحول حقيقي في التعلم المدرسي. إن التربية تشهد ربما للمرة الأولى تزاوجًا فريدًا بين التقنية والنظرية التربوية.الحقيقة المقابلة للخرافة الأولى:ليس بالتقنية وحدها يحدث التحول الحقيقي في النموذج التربوي لمدرسة المستقبل، وإنما يتطلب ذلك حدوث تغيير جوهري في افتراضات التربويين الفلسفية والنظرية حول الكيفية التي يتعلم بها الفرد، وتوظيف التقنية في ضوء هذه الافتراضات.الخرافة الثانية:دور التقنية في مدرسة المستقبل هو التدريس المباشر، أي استخدامها كأدوات للتعليم بالطريقة نفسها التي عمل بها المعلمون. هذا الدور سيكون حافزًا لتحديث التربية وإحداث التحول في النموذج التربوي. مع كل تقنية جديدة ناقش التربويون كيفية توظيفها لتحقيق الأهداف التربوية. ولكن لسوء الحظ يبقى الاستخدام الأوضح والأكثر شيوعًا هو استخدامها للتدريس (نقل المحتوى التعليمي) بالطريقة نفسها التي يدرس بها المعلم. وبرغم أهمية هذا الدور لدعم محاضرة المعلم (البور بوينت مثلاً)، إلا أنه ليس كافيًا لإحداث تحول حقيقي في النموذج التربوي لمدرسة المستقبل، وإنما تكريس المفهوم التقليدي للتقنية، الذي يعني أن المعرفة متضمنة فيها، أي أن دورها هو نقل المعرفة (التدريس المباشر)، ودور الطالب هو تعلم هذه المعرفة كما يتعلمها من المعلم، تمامًا مثل العربات أو الحاويات التي تنقل البقوليات لمحلات البقـالة، المنطق هو: إذا نقلت البقوليات، سيأكل الناس، إذا نقل التعليم، سيتعلم الطلاب. ولكن التاريخ البعيد والقريب يدلل على أن هذا الدور للتقنية لم يغير النموذج التربوي، فهو لا يتعدى تبادلاً في الأدوار، التقنية بدلاً من المعلم. « لقد بينت أبحاث كثيرة حول الحواسيب وتقنيات أخرى أن التقنية ليست أكثر فاعلية من المعلمين في تدريس الطلاب. إن استخدام التقنية كمعلم يعني أنها تعرض المعلومات وتوجه أسئلة، وتحكم على استجابة المتعلم (وهي وظائف يمكن أن يؤديها الإنسان بشكل أفضل)، بينما يستقبل الطلاب المعلومات، ويخزنونها، ويسترجعونها (وهذه وظائف تؤديها الحواسيب بشكل أفضل)، ما يحصل عليه المتعلمون عبارة عن معرفة خاملة لا يستطيعون استخدامها في مواقف جديدة. مشكلة نقل التعلمينبغي إذًا إعادة تصوراتنا وافتراضاتنا حول دور التقنية في التعليم لتصبح أدوات لتعلم الطلاب لبناء معرفتهم الخاصة، دور التقنية (والمعلم) في التعلم هو دور غير مباشر: حفز ودعم النشاطات التي تشجع انهماك المتعلم بالتفكير الذي يمكن أن ينتج عنه التعلم، وبعبارة أخرى، استخدامها كشريك فكري يتعلم الطالب معها وليس فيها، أي أن الطالب يمثل ما يعرفه بدلاً من تذكر ما يعرفه المعلم أو ما تقدمه التقنية (أو الكتاب)، حيث توفر التقنية وسائل مرنة لتمثيل ما يتعلمه الطالب.يمكن للتقنية أن تكون شريكًا فكريًا إذا استخدمت كأدوات لدعم بناء المعرفة، وكسياق لدعم التعلم عن طريق العمل، وكوسائط اتصال لاستكشاف المعرفة، وكوسيط اجتماعي لدعم الحوار والتعاون بين المتعلمين، ومساعدة المتعلمين على توضيح وتمثيل ما تعلموه، والتعقيب على ما تعلموه وبناء التمثيلات الشخصية للمعـنى (المعرفة). باختصار، ركزت التربية تقليديًا على التدريس، بناءً على الافتراض بأن التعلم يتبع التعليم حتمًا، ولكن التشديد في السنوات الأخيرة على التحصيل، أدى إلى إعادة النظر بوجهة النظر المبسطة هذه، حيث بدأ تعلم الطلاب بدلاً من تدريس المعلمين يأخذ مكانة جوهرية في عملية التربية، أي انتقال التركيز من المدخلات إلى العمليات.الحقيقة المقابلة للخرافة الثانية:إن استخدام التقنية كأدوات للتدريس المباشر بدلاً من أدوات للتعلم يتعلم الطالب معها (وليس منها) سيكون قاصرًا عن إحداث تغيير جوهري في النموذج التربوي، ولذا ينبغي أن تتغير الطرق التي تستخدم بها التقنية من أدوارها التقليدية (التقنية كمعلم) إلى التقنية، كأدوات لتعلم نشط وبنيوي ومقصود وأصيل وتعاوني، ويتبع ذلك بالضرورة إعادة النظر بدور المعلم والمتعلم في ضوء مضامين هذا الدور الجديد للتقنية في مدرسة المستقبل. الخرافة الثالثة:إعداد المعلمين لمدرسة المستقبل يتطلب تدريبهم قبل الخدمة من خلال مقرر أو مقررين يركزان على تدريبهم في المهارات الأساسية لاستخدام التقنيات والحواسيب التي تقدم على نحو منفصل وغير تكاملي مع مواد التخصص وأساليب التدريس، إضافة إلى دعم هذا التدريب بورش عمل وقتية أثناء الخدمة. هذا التدريب يعد كافيًا لدمج التقنية في التعليم.يعد توافر مهارات استخدام الحواسيب والمصادر التقنية الأخرى معرفة أساسية لا غنى عنها لتوظيف التقنية في التعليم، ولكنها غير كافية لإعداد معلم متمكن وقادر على تهيئة طلابه لمتطلبات الحياة والعمل في عصر المعرفة. المعلم المتميز ليس فقط المتمكن من استخدام الحواسيب والشبكات، وإنما هو معلم يعشق مادته، ويهتم بتعلم طلابه، ويحـب مهنته، ويوظف ما يسميه (ميريل) المبادئ الأولى للتعليم التي تشير إلى أن التعلم يحدث عندما:- ينهمك المتعلمون في حل مشكلات من العالم الواقعي.- يتم تنشيط الخبرات السابقة ذات العلاقة بمهام التعلم.- ينمذج المعلم ما ينبغي تعلمه وليس إخبار الطلاب فقط بما ينبغي تعلمه.- يستخدم المتعلم المعرفة أو المهارة الجديدة في حل المشكلات.- يشجع المتعلمون على دمج المهارات الجديدة في حياتهم اليومية.من الواضح أن المبادئ السابقة لا تشير إلى التقنية بشكل مباشر، ولكنها ضمنيًا موجودة لأنها واحدة من بين بدائل عديدة لمشكلات التعليم والتعلم. إن معلم مدرسة المستقبل ليس المتمكـن من استخدام التقنية فقط، وإنما هو معلم بنيوي يتمـيز بالعديد من الخصائص، من بينها تشجيع مبادرات الطالب، والتخلي عن كثير من التحكم الصفي، والسماح لاستجابات الطلاب بتوجيه النشاط التعليمي، واستخدام خبراتهم واهتماماتهم في تصميم مواقف تعليمية، وتشجيع روح التساؤل لدى الطالب من خلال توجيه أسئلة هادفة ومتعمقة ومفتوحة، وتشجيع الحوار الهادف المتعمق بين الطلاب، وعدم فصل المعرفة عن عملية البحث عنها، وعدم فصل التعلم عن تقويمه، وتقديم مهام التعلم في مواقف أصيلة، وتشجيع الطلاب على تحدي أفكار وتصورات بعضهم بعضًا، واحترام أفكار طلابه وتقديمها قبل أفكاره، وتشجيعهم على التعبير الواضح عما تعلموه والتعقيب على ما تعلموه، والترحيب بقيادة الطلاب وتعاونهم وتحملهم مسؤولية توجيه تعلمهم ... إلخ. هذه مهارات مهمة للمعلم مع التقنية أو بدونها، وهي مهارات تنطلق من افتراضات مختلفة حول الكيفية التي يتعلم بها الفرد.المهارات السابقة لها مضامين مهمة لبرامج إعداد المعلم قبل الخدمة، فالمعلمون يعلمون بالطريقة التي عُلموا بها. الملاحظ كما تشير الأدبيات أن هذه البرامج لم تساير التغيرات التقنية في المجتمع، فلم تكيف طرق التدريس على سبيل المثال لتعكس هذه التغيرات، وتفتقد العديد من كليات التربية خطة مكتوبة لدمج التقنية في مناهجها وبرامجها، كما أن العديد من أعضاء هيئة التدريس فيها لا ينمذجون استخدام التقنية في مقرراتهم الدراسية، لأن العديد منهم لا يحصلون على التدريب الذي يحتاجون إليه أنفسهم لكي ينمذجوا الاستخدام الفعال للتقنية.الحقيقة المقابلة للخرافة الثالثة:تتطلب عملية إعداد المعلم لمدرسة المستقبل إعادة النظر جملة وتفصيلاً في برامج الإعداد قبل الخدمة وأثناءها، ليس في مجال تقنية المعلومات والاتصال فقط، وإنما بجميع متغيراتها ومكوناتها بما في ذلك طرق التدريس، وإعادة صياغتها في ضوء الافتراضات المعاصرة حول التعلم. الخرافة الرابعة:فور تعلم المعلمين أساسيات استخدام الحواسيب والشبكات سيكونون على استعداد لاستخدام التقنية بفاعلية.تبين أدبيات التغيير عمومًا والتغيير التربوي خصوصًا، أن التغيير في اتجاهات المعلمين نحو الابتكارات التعليمية وتبنيها واستبدال الأساليب التقليدية التي دربوا عليها وألفوها أمر بالغ الصعوبة ويتطلب وقتًا طويلاً للعديد من الأسباب أهمها:- عدم ترحيب المعلمين عمومًا بالتغيير نظرًا لتبعاته العملية والنفسية.- عدم اهتمام القائمين على التغيير التربوي بالإدارة والتنفيذ الجيدين للتغيير، فالتنفيذ الضعيف للتغيير - تشير الأدبيات - كثيرًا ما يكون سببًا جوهريًا في الإخفاق.- التغيير يمر بمراحل أو أنماط أمكن تحديدها في أدبيات عديدة، يبدأ التغيير بمرحلة الوعي ثم تطوير الاهتمام ثم التجريب الذهني، فالتجريب الفعلي، فالتبني (أو الرفض)، ثم الدمج. مرحلة التبني ليست مؤشرًا كافيًا على نجاح التغيير ما لم (يُدمج) التغيير في السلوك اليومي للمعلم (أو المنظمة). ينبغي إذًا، إتاحة الفرصة للمعلم للمرور بهذه المراحل التي تتطلب وقتًا معتبرًا، وجهدًا مكثفًا من قبل القائمين على إدارة التغيير. ففي دراسة شـركة أبـل المطولة لمشروع « صفوف الغد الدراسية» حدد الباحثون المراحل التي يمر بها المعلم في عملية دمج التقنية في التعليم فيما يأتي: -المرحلة المدخلية -مرحلة التبني- مرحلة التكييف - مرحلة الاستخدام اليومي - مرحلة الابتكارالحقيقة المقابلة للخرافة الرابعة:لكي يستخدم المعلمون التقنية بشكل كامل في التعليم العام، ينبغي حدوث تغييرات جوهرية في أساليب التدريس والمناهج وتنظيم الصف، وأن هذه التغيرات تحدث خلال سنوات وليس أسابيع أو أشهر، وتتطلب نموًا مهنيًا كبيرًا، ودعمًا فنيًا وتعليميًا مستمرًا.الخرافة الخامسة:مهارات الحياة والعمل في الألفية الثالثة أو ما اصطلح عليه بمهارات الثقافة المعلوماتية هي مهارات تقنية في استخدام الحواسيب والشبكات مثل مهارات تشغيل الحواسيب واستخدام لوحة المفاتيح وتحميل البرامج وتصفـح المواقع.. إلخ. هذه هي المهارات التي يجب أن تركز عليها مدرسة المستقبل.تمثل المهارات في تقنية المعلومات والاتصال متطلبًا رئيسًا لمواجهة تحديات الحياة والعمل في عالم موجه بالتقنية، وتشمل المهارات جميع ما يحتاج إليه التعامل مع الحواسيب وشبكاتها. ولذلك، ركزت برامج الثقافة المعلوماتية على المفاهيم والعمليات الأساسيـة ، التي تمثل مدخلاً ضروريًا لتوظيف التقنية في حل المشكلات. إلا أن المهارات المطلوبة لعصر المعرفة تتجاوز بكثير المهارات الأساسية لاستخدام التقنية، فهذه المهارات برغم أهمية تعلمها من قبل الطلاب إلا أنها ليست كافية لتوفير نموذج يساعد الطالب على تطبيق ما تعلمه ونقله من موقف إلى آخر. إن الفكرة حول مفهوم الثقافة المعلوماتية تبدو ضبابية، في الوقت الذي يحتاج فيه المتعلم إلى حل مشكلات العالم الواقعـي التي تتميز بكونها مشكلات غـير مبنيـة بناءً محكمًا. إيزنبرج وجونسـون على سبيل المثال، طورا ما سمياه بالمهارات الست الكبيرة كأساس للثقافة المعلوماتية: (1) تعريف أو تحديد المشكلة أو الحاجة المعلوماتية، (2) وتطوير استراتيجيات البحث عن المعلومات المطلوبة، (3) وتحديد المصـادر والوصول إليها، (4) واستخدام المعلومات، (5) ودمج هذه المعلومات، (6) وتقويم المعلومات: تقويم العملية (الكفاءة) وتقويم المنتج (الفاعلية). ومثل ذلك ما جاء في قائمة الكفايات التقنية التي طورتها الجمعية الدولية للتقنية في التعليم. كذلك حدد زانكر مهارات تقنية المعلومات والاتصال بأنها تشمل: مهارات الاتصال، ومهارات تقنية المعلومات، ومهارات التفكير، والعمل مع آخرين، وتحسين المتعلم لأدائه، وحل المشكلة. ويرى آخرون أن مهارات التعلم الموجه ذاتيًا (المبادرة، والاستقلالية، وحل المشكلة، والشعور بمسؤولية التعلم، والفضول، والعمل الموجه بالأهداف، والرغبة في التعلم، والتغير، والتمتع بالتعلم) تمثل مهارات مهمة للألفية الثالثة. وحدد هود وترلنج ما يعتقدانه مهارات البقاء في الألفية الثالثة: التفكير والعمل الناقدان، والابتكارية، والتعاون، وفهم الثقافات الأخرى، والاتصال، والحوسبة، والاعتماد على النفس.من الواضح أن أغلب المهارات المذكورة ليست مهارات تقنية حول استخدام الحواسيب، كما أن من الواضح أيضًا أن النظرة الضيقة والمبسطة لمهارات الثقافة المعلوماتية، تنطلق أصلاً من المنظور التقليدي للتقنية كعتاد ومنتجات.الحقيقة المقابلة للخرافة الخامسة:إن تركيز برامج الثقافة المعلوماتية للطلاب حول المهارات الأساسية في استخدام الحواسيب والمصادر التقنية الأخرى، وإهمال مهارات أخرى عديدة ومهمة، لن يكون كافيًا لإعداد طالب مثقف معلوماتيًا يعرف متى وكيف يحدد حاجاته (أو مشكلاته) المعلوماتية، ويطور بدائل حلولها، ويقوم كفاءة وفاعلية الحل المعلوماتي. لهذا ينبغي إعادة تصوراتنا حول مفهوم الثقافة المعلوماتية ومتطلبات الحياة والعمل في الألفية الثالثة.الخرافة السادسة:بمجرد وضع الحواسيب والشبكات في المدارس وقاعات الدراسة والمعامل، سوف يتحسن التعلم مباشرة، وكلما توافرت حواسيب أكثر سيتحقق تحسن أكبر.يعد توافر الحواسيب والشبكات والمكونات الأخرى للبنية التقنية أساسًا جوهريًا لتوظيف التقنية في التعليم. الحواسيب يمكن أن تستخدم بطرق إيجابية مثل تشجيع الاستكشاف الحر ومقابلة الحاجات الفردية، .. إلخ. كما يمكن أن تستخدم بطرق سلبية مثل ممارسة مهام عديمة الجدوى أو الوصول إلى مواد غير ملائمة. ولكن الملاحظ أن العديد من الحواسيب ذات السرعات العالية في الوصول إلى الشبكة المعلوماتية العالمية (الإنترنت)، لا تستخدم بطرق مناسبة لتحسين التعليم والتعلم بالمستوى المقبول للأسباب التالية.لم يحصل المعلمون على تدريب كاف لدمج التقنية في جوهر التعليم الصفي، ولذا تستخدم الحواسيب على هامش النشاط الصفي.- لا يحصل المعلمون على دعم فني لحل المشكلات الفنية وقت حدوثها.- افتقاد المعلمين للبرمجيات التي تدعم الأهداف الرئيسة للمنهج، والمصممة بشكل جيد بناء على الافتراضات الحديثة حول التعلم وعلم التدريس.ونضيف للأسباب السابقة عدم توافر دعم تعليمي (تدريب واستشارة عند الطلب) للمعلمين لتجريب نماذج جديدة في دمج التقنية في المنهج، وغياب الخطط التقنية الفعالة التي تأخذ في الحسبان جميع مكونات المنظومة التربوية. إن التقنية لا تعمل في فراغ وإنما في سياق شبكة معقدة ومتداخلة من مكونات النظام التربوي. إن توظيف التقنية بفاعلية يتطلب رؤية واضحة لأهدافنا، وتطوير خطط تقنية محددة لتحقيقها. ولكن للأسف، يسبق التسارع نحو توفير التقنية في المدارس الرؤية التربوية والتخطيط الواعي الضروري لاستخدام التقنية على نحو جيد. وحتى في الدول المتقدمة التي تضع خططًا تقنية، يلاحظ كليمـان أن الانتباه يوجه للتقنية التي تحولها الخطة لتكون هدفًا في حد ذاتها، على حساب المكونات الأخرى للخطة. ويضيف: أن التقنية أداة، والتخطيط التقني مثل التخطيط لشراء واستخدام أدوات البناء - الخطوة الأولى هي تصميم المخطط الذي سيتم بناؤه.إن أية خطة تقنية ينبغي أن تشمل في الأقل العناصر التالية: تطوير التعليـم (المنهج)، وتطوير المنظمة، وتطوير مهني ، وبنية تقنية، ودعم فني، ودعم تعليمي، وميزانية كافية، ومراقبة وتقويم.الحقيقة المقابلة للخرافة السادسة:لكي تستخدم التقنية بفاعلية في التعلم المدرسي، يجب أن تكون جزءًا من خطة شاملة لتطوير التعليم. وبعبارة أخرى، يجب دمجها بشكل كامل في خطط تحسين المدارس، وخطط المناهج وخطط النمو المهني وجميع الخطط التربوية التي توضع بوساطة القيادات التربوية. إن تحقيق عائد تربوي مرض من التقنية، يتطلب أن ينظر إلى التقنية كأدوات لمقابلة حاجات جوهرية، لا أن نحددها كأهداف جديدة معزولة.خلاصة وتوصيات:يعتمد نمط مدرسة المستقبل على افتراضاتنا حول التعلم ودور التقنية والمعلم والطالب، وليس على التقنية بحد ذاتها، فالأسس الفلسفية والنظرية هي التي توجه التقنية في مدرسة المستقبل وليس العكس. فإذا ارتضى التربويون الافتراضات التقليدية السائدة حاليًا حول المتغيرات المذكورة، فإن مدرسة المستقبل لن تختلف كثيرًا عن النموذج السائد حاليًا، سوى إضافة تقنيات جديدة إليها. أما إذا تبنى التربويون افتراضات المدرسة البنيوية ودمجت التقنية في التعلم المدرسي في ضوء هذه الافتراضات، فإن تحولات جذرية في النموذج التربوي لمدرسة المستقبل يتوقع حدوثها. في الحالة الأخيرة، ستكون مدرسة المستقبل بيئة تعلم دينامية، مرنة ومفتوحة، تكون الأولوية فيها للأسئلة والاستقصاء بدلاً من حفظ الحقائق، وتوظف التقنية فيها كأدوات للتعلم بدلاً من نقل المعلومات، وتتصف بخبراتها التكاملية وبمشكلات تعلم أصيلة، والتركيز على العمليات بدلاً من المنتجات، وعلى النوع بدلاً من الكم من خلال التركيز على الفهم المتعمق لمفاهيم محدودة بدلاً من الفهم السطحي المصطنع لمفاهيم غزيرة، وسيكون التعلم بمجموعات صغيرة غير متجانسة، واعتماد أساليب تدمج التفكير اللفظي والبصري، والتركيز على التقويم النوعي للأداء، وسيكون المعلم مستشارًا معلوماتيًا ومرشدًا أكاديميًا وموجهًا ومصممًا ومطورًا للمادة الدراسية وعضوًا في فريق تعاوني. في مدرسة المستقبل سيبحث الطالب بنشاط عن المعلومات وتقرير ما يحتاج إليه منها والمشاركة أحيانًا في دور الخبير، ولديه الرغبة في الاستكشاف وخصوصية في التفكير، والبحث عن حلول فريدة لمشكلات التعلم، وتوجيه تعلمه والتحكم فيما يتعلم.في هذا النموذج، لن تكون مدرسة المستقبل خطية في عملياتها: صفوف متراصة من الطلاب والقاعات الدراسية، وحصة دراسية تتبعها أخرى، ووحدات تعليمية متتابعة، وصف دراسي يتبعه آخر، ومناهج مجزأة ومنفصلة عن الواقع، وإدارة بيروقراطية، ومعلم يأمر وينهى. في مدرسة المستقبل لن تدور هذه المكونات حول جرس المدرسة بنسق رتيب يشبه الآلة في خط التجميع في المصنع في عملية الإنتاج الجماهيري لنسخ متطابقة من المنتَج.النموذج الجديد لمدرسة المستقبل، سيكون له دور مهم في معالجة مشكلتين رئيسيتين تعانيهما المدرسة التقليدية: غياب الحافز للتعلم وصعوبة نقل التعلم إلى مواقف جديدة. هذا النموذج الجديد يتطلب دعمًا سياسيًا وماليًا وتخطيطًا استراتيجيًا وتغييرًا شاملاً وعقولاً متفتحة، تدمج الفكر التربوي المعاصر وإمكانات التقنية الفريدة لتوفير بيئة تعلم تعد المتعلمين لعالم متغير.توصيات: بناء على المناقشة السابقة لمحاور هذه الورقة، يعتقد الكاتب بأهمية التوصيات التالية:- التفكير الجاد في مراجعة برامج إعداد المعلمين قبل الخدمة في ضوء النظريات والفلسفات التربوية المعاصرة، واستشراف نماذج تربوية بديلة لهذا الإعداد، من خلال الاسترشاد بمقارنات مرجعية متميزة.- التفكير الجاد بنماذج بديلة لتنفيذ التدريب الميداني للمعلم يعتمد التعاون الوثيق بين هيئات التدريس في أقسام المناهج وطرق التدريس وتقنية التعليم ومعلمي التعليم العام وطلاب الدراسات العليا، بغرض تقديم خبرات تكاملية للمعلم، ونمذجة التقنية في التعليم بدلاً من تقديم مهارات التدريس على نحو مجزأ كما يجري حاليًا.- توفير فرص تطوير مهني لأعضاء هيئات التدريس بكليات التربية في مجالات تطبيق التقنية في ضوء التحولات النظرية والفلسفية المعاصرة حول التعلم ودور التقنية والمعلم والطالب.- المسارعة بوضع خطط تقنية لدمج التقنية في مناهج كليات التربية وبرامجها تنطلق من رؤية واضحة وأهداف محددة لتحقيقها.