الحديث عن ثقافة دولة مكوَ�'نة من أربع مجموعات لغوية مختلفة، سيقود إلى نقاش فلسفي عن ماهية الثقافة، وعن مدى قدرة حوالي خمسة ملايين سويسري يتحدثون الألمانية، على الاستقلال ثقافيًا عن العملاق الألماني المجاور لهم، بسكانه الذين يفوق عددهم 80 مليون نسمة، وكذلك استقلال حوالي مليون ونصف مليون سويسري يتحدثون الفرنسية، عن أكثر من 65 مليون فرنسي، ثم عن ماهية الهوية السويسرية، والسؤال عن كيفية التعامل مثلا مع الألمان الذين انتقلوا إلى سويسرا وحصلوا على جنسيتها، مثل الأديب العالمي هيرمان هسه، أو السويسريين الذين انتقلوا إلى فرنسا.
ربما كان الأجدى من تناول هذه القضايا الفلسفية، أن نستعرض نماذج من هذه الثقافة، مع الإشارة في عجالة إلى أن الشعب السويسري، شعب مثقف جدًا، فقد توصلت دائرة الإحصائيات الاتحادية السويسرية في دراسة لها من عام 2008، إلى أن 81 في المائة من السكان يواظبون على قراءة الكتب الخاصة بالعمل أو على سبيل الهواية، و93 في المائة من السكان يزورون سنويًا إحدى المؤسسات الثقافية، وأن 66 في المائة منهم حضروا احتفالا ثقافيًا، أو زاروا معالم تاريخية، أو متاحف، أو معارض فنية، وأن 44 في المائة منهم يواظبون على زيارة المكتبات العامة، وأن 42 في المائة منهم يذهبون إلى المسارح، وأن 35 في المائة منهم يحضرون الحفلات الغنائية، وأن 62 في المائة منهم يمارسون أنشطة ثقافية، مثل التصوير أو الرسم أو النحت أو العزف الموسيقي أو الغناء، وبلغت نسبة قراء الصحف ومتابعي نشرات الأخبار في التلفزيون 97 في المائة، ومتابعي الإذاعة حوالي 92 في المائة، ومستمعي الموسيقى 86 في المائة، وأن 79 في المائة منهم يستخدمون الإنترنت كمصدر معلومات، وأن أكثر الأنشطة الثقافية تقام في الشطر المتحدث بالألمانية، مقابل اهتمام الشطر المتحدث بالإيطالية بالرقص وتجارة التحف الفنية، أما الشطر المتحدث بالفرنسية فإن سكانه يميلون إلى الحفلات الغنائية، ويحبون الاستماع إلى الموسيقى والقراءة.
وقد استطاعت سويسرا أن تصبح منافسًا قويًا في الكثير من المجالات الثقافية، فصحيفة (نويه تسوريشر تسايتونج) تشق طريقها إلى القراء الناطقين بالألمانية في جميع أنحاء العالم، وتتمتع بمصداقية كبيرة وتحليل رصين للأحداث في العالم العربي وغيره، ومجلة (دو DU) هي من أفضل المجلات الثقافية الصادرة باللغة الألمانية، وأعمال التطريز على الزي التقليدي، هي إحدى المعالم المميزة للثقافة السويسرية، والفن المعماري الذي يتجسد في المنازل الريفية المبنية بالقرب من جبال الألب، وفي الكاتدرائيات والقصور والقلاع المبنية على الطراز الرومانسي في القرن الثاني عشر، وغيرها كثير يبرر احتلال المكاتب المعمارية السويسرية مكانة عالمية، وهناك أدباء ورسامون وفنانون وممثلون ومخرجون وعلماء لا حصر لهم، ربما كان أشهرهم العالم ألبرت أينشتاين، الذي جاء من الرايخ الألماني في عام 1891م، وحصل على الجنسية السويسرية عام 1901م، وظل محتفظًا بها، حتى بعد حصوله على الجنسية الأمريكية، وتوصل إلى نظرية النسبية وهو يعيش ويعمل في مدينة برن السويسرية، في عام 1905م.
دورينمات والشرق
فريدريش دورينمات هو واحد من أهم أدباء اللغة الألمانية في العصر الحديث، مع التأكيد على أنه ليس الأديب السويسري الوحيد الذي استطاع أن يصل إلى هذه المكانة، فهناك أيضًا ماكس فريش، وروبرت فالسر، كما أن هناك أديبين سويسريين حصلا على جائزة نوبل في الأدب المكتوب باللغة الألمانية وهما: هيرمان هسه، في عام 1946م، الذي سبقت إليه الإشارة، ومن أعماله الشهيرة المترجمة إلى اللغة العربية، كتاب (لعبة الكريات الزجاجية)، وكذلك كارل شبتلر، الذي حصل على هذه الجائزة المرموقة في عام 1919.
دورينمات من مواليد 5 يناير 1921م، بالقرب من مدينة برن، وكان جده سياسيًا مشهورًا اسمه أولريش دورينمات، وأبوه قسيسًا، وكان دورينمات طالبًا ضعيفًا في الدراسة، وحصل على تقدير (مقبول) في الثانوية العامة بصعوبة، وقد اعتبر فترة التعليم المدرسي «أسوأ فترة» في حياته، ثم التحق بجامعة برن لدراسة الفلسفة والعلوم الطبيعية وعلوم اللغة الألمانية وآدابها، وأتم دراسته الجامعية عام 1946م، لكنه فشل في الانتهاء من رسالة الدكتوراه، الذي بدأ في كتابتها، كان يهوى الرسم، واستمرت معه هذه الهواية طوال حياته، وترك العديد من اللوحات الفنية، وألف الكثير من المسرحيات، وغيرها من الأعمال الأدبية، التي صدرت في 28 مجلدًا في عام 1980م، وتوفي في 14 ديسمبر 1990م، عن عمر يبلغ 69 عامًا.
وقد ترجمت بعض أعماله إلى اللغة العربية، ومن أشهرها (زيارة السيدة العجوز)، و(الشهاب)، و(زواج السيد مسيسبي)، و(رومولوس العظيم)، و(هبط الملاك في بابل) ، ورغم مرور أكثر من عشرين عامًا على وفاته، فإن أعماله مازالت تجد طريقها إلى الجمهور.
ويرى النقاد أن دورينمات حريص على أن يدفع القارئ أو المشاهد لمسرحياته، للتفكير والتوصل إلى آراء مستقلة في الأحداث من حوله، وألا يكون مشاهدًا سلبيًا، متلقيًا للفكرة جاهزة، لأنه حين يعيد التفكير في الأشياء التي يعتبرها المجتمع من المسلمات، سيكتشف فيها الكثير من التناقضات، كما ينبه النقاد إلى أسلوبه المميز في الضحك المأساوي، مثل نظريته بأن القنابل النووية تجعل العالم أكثر سلمًا، لأن من يمتلكها لا يجرؤ على استخدامها، أو رأيه بأن الولايات المتحدة الأمريكية عاقبت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، بأن صفحت عنها وساعدت على بنائها من جديد، بدلا من أن تقضي عليها، لأن الميت لا يتألم، أما من يبقى على قيد الحياة، وعقدة الذنب تكويه، فإنه يعيش في عذاب، وهي الفكرة التي عبر عنها في رواية (زيارة المرأة العجوز)، حسب تفسير أنيس منصور في مقدمته لترجمة ثلاثة مسرحيات لدورينمات.
أبو حنيفة وعنان بن داود: الخلفية التاريخية
في يناير من هذا العام (2011م) عرض مسرح مدينة بازل قصة (أبو حنيفة وعنان بن داود)، بعد تحويلها إلى عمل مسرحي، وهي القصة التي كتبها دورينمات في عام 1975م، وصدرت لها ترجمة باللغة العربية في عام 2004م، في (منشورات الجمل) بكولونيا، وهي قصة تستحق التأمل، للعديد من الأسباب التي سنتناولها لاحقًا.
قبل استعراض القصة التي كتبها الأديب السويسري، تنبغي الإشارة إلى أن مصادر تاريخية عربية، تذكر أن الإمام أبا حنيفة النعمان المولود بالكوفة في عام 80 من الهجرة النبوية، الموافق عام 699م، لأب فارسي مسلم، كان يعمل تاجرا للحرير، وعمل ابنه معه في سن الصبا، وحفظ القرآن، ووصل وعمره أربعين عامًا إلى مجلس أستاذه حماد بن سليمان، في مسجد الكوفة، بعد أن توفي الأخير في عام 120 هجرية، وفي هذا الحين خرج زيد بن علي زين العابدين، متزعمًا ثورة العلويين على الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، واعتبر أبو حنيفة ونفر من العلماء، أن هذه الثورة على ملك الأمويين جائزة شرعًا، وعندما نجح الأمويون في قمع الثورة، تعرض الإمام أبو حنيفة للسجن والتعذيب، ثم خرج من السجن، وهاجر إلى مكة، في عام 130 من الهجرة، وبقى هناك ست سنوات، ثم عاد إلى الكوفة، ويقال إن الخليفة العباسي أبا جعفر عبدالله المنصور، دعا أبا حنيفة لتولي القضاء، لكن الأخير رفض ذلك، فأمر الخليفة بسجنه، وجلده كل يوم عشرة أسواط حتى يذعن لأمره، لكنه بقي في السجن حتى مات، وعندها ندم الخليفة على ذلك ندما عظيما.
وكان الإمام أبو حنيفة النعمان يعتمد على الكتاب والسنة، وفقه الصحابة والقياس، والاستحسان والعرف، ولكن البعض اتهمه بمخالفة السنة، وأنه يقدم القياس على النص، وهو ما نفاه قطعيًا، قائلا: «إنا نأخذ أولا بكتاب الله، ثم السنة، ثم بأقضية الصحابة، ونعمل بما يتفقون عليه، فإن اختلفوا قسنا حكمًا على حكم بجامع العلة بين المسألتين حتى يتضح المعنى».
أما عنان بن داود فتذكر المصادر التاريخية العربية أيضًا أنه كان ابن زعيم الطائفة اليهودية في العراق، وأنه درس الشريعة، وطالب بالعودة إلى الكتاب المقدس نفسه، أي التوراة، مستخدمًا طريقة القياس، التي استقاها من الفقه الإسلامي، وخصوصًا من فكر الإمام أبي حنيفة النعمان، وبعد وفاة زعيم الطائفة اليهودية، رفض رؤساء الحلقات التلمودية تعيين عنان، مكان أبيه، كما تقضي بذلك المصادر اليهودية الحاخامية، لكنه رفض الإذعان لقرارهم، ودخل معهم في خلاف حاد عام 762م، وأسس فرقة القرائين، فأوشى به قادة اليهود، ودخل السجن بتهمة التمرد، ويقال أن عالمًا مسلمًا، يعتقد أنه أبو حنيفة النعمان، اقترح عليه أن يطلب مقابلة الخليفة، أبي جعفر المنصور، ويوضح له رأيه ومعتقده في اليهودية، وأنه لم يرتد عليها، وإنما هو صاحب مذهب ورؤية فكرية ناضجة، تعتمد على الاجتهاد، التي تبناها علماء الإسلام ومفكروهم، وهذا ما حدث بالفعل، فالتقى الخليفة، وتحقق له ما أراد، ويرى المؤرخون أن عنان بن داود استند إلى البيئة الإسلامية المنفتحة على مبدأ الاجتهاد، لأن الذهن البشري قادر على أن يفرق بين الحق والباطل، بدلا من الاعتماد على التلمود، الذي هو عبارة عن تدوين لمناقشات وآراء حاخامات اليهود، والذي يعتبر مصدرًا أساسيًا للتشريع في الديانة اليهودية.
أبو حنيفة وعنان بن داود: القصة السويسرية
العمل الأدبي عمومًا لا يهدف إلى تسجيل حقائق تاريخية، ووقائع موثقة، بل هو ينطلق من حدث تاريخي، ثم يصنع منه شيئًا مختلفًا تمامًا، كما هو الحال مع مسرحيات شكسبير التاريخية، ولذلك نجد فريدريش دورينمات يتحرر من قيود التاريخ، ويصنع القصة الأدبية على الشكل التالي:
أمر الخليفة المنصور، في عام 760م، بسجن الإمام أبي حنيفة، ثم أمر باعتقال الكاهن اليهودي عنان بن داود، ووضعه في نفس الزنزانة القذرة التي يقبع فيها العالم المسلم، وأمر حارس السجن بتقديم أشهى الطعام لهما، بشرط أن يوضع في صحن مشترك، ليجبرهما على تناول الطعام سوًيا، كما أمر بأن يكون الشراب خمرًا، ليزيد عذاب أبي حنيفة.
في البداية يأبى الرجلان أن يحدث أحدهما الآخر، ويرفضان تناول الطعام من نفس الصحن، ويفضلان الجوع على تلك الإهانة، ويريد كل واحد منهما أن يثبت للآخر أنه أشد ورعًا وتقوى منه، وأن إيمانه أقوى، من خلال تحمل الجوع، أما الشراب فيكتفي أبو حنيفة بأن يبلل شفتيه بقطرات قليلة، حتى يبقى على قيد الحياة، وكذلك يفعل الكاهن اليهودي، ويرفض أن يشرب منه احترامًا لمشاعر أبي حنيفة، على الرغم من أن الخمر غير محرم عليه.
في اليوم الأول اقتربت الفئران على استحياء من الطعام، وسرقت منه بسرعة، ثم هربت إلى جحورها، ثم تكرر المشهد في اليوم التالي، ولكن الفئران أصبحت أكثر جرأة، وأكبر عددًا، وأسرع إقبالا على الطعام. مر أسبوع وأبو حنيفة وعنان لا يتراجعان عن موقفهما، ولا تؤثر فيهما رائحة الطعام اللذيذ، ولا منظره المثير للشهية، حتى كادا أن يهلكا، وقد أثبت كل منهما للآخر صدق ورعه، وعمق إيمانه، فرأى أبو حنيفة أنه لم يعد مبرر لهذا العناد، فخطف الطبق فور دخوله الزنزانة، وقبل هجوم الفئران عليه، والتهم منه الكثير، لكنه ترك لعنان بن داود في الطبق ما يكفيه، وناوله الطبق، فأكل منه اليهودي، وكادت الفئران أن تهجم عليه، وفي اليوم التالي ترك أبو حنيفة الطعام لعنان، الذي أخذ الطبق بسرعة أكبر، لأن الفئران كانت قد أصبحت مسعورة، وأكل بنهم شديد، ثم ناول الطبق لأبي حنيفة، فتسلقت الفئران على جسم أبي حنيفة، حتى لم يعد معروفًا أين أبو حنيفة وأين الفئران.
بدأ المسلم واليهودي في الحديث بحذر وبتردد، ثم أقبلا على النقاش، وطرح الأسئلة والإجابة عليها، وبعث القمر بنوره إلى داخل الزنزانة، فاستمر الحديث بينها طوال الليل، ثم سمعا صوت المساجين الآخرين وهم يتعرضون للتعذيب، فرفع أبو حنيفة يديه إلى السماء، وأخذ يدعو الله أن يخفف عنهم، وكذلك فعل الكاهن اليهودي، وارتفع صوتهما حتى بلغ القائمين على تعذيب السجناء، فأصابهم الخوف وتوقفوا عن ذلك.
مرت الأيام والحوار بينهما مستمر، والطعام الذي كان شهيًا، أصبح لا طعم له ولا رائحة، وبدلا من الخمر، أصبح الشراب ماء، وقامت صداقة بين الفئران وبين ساكني الزنزانة، فإذا بهما يمسحان على هذه الفئران وهما مستغرقان في الحديث، ونسيهما الخليفة ونسيهما كبير الوزراء، ومات الخليفة وجاء بعده خلفاء آخرون، ومرت قرون وأبو حنيفة وعنان جالسان في زنزانتهما، والحديث عن الله لا ينتهي، يستشهد عنان من التوارة، فيرد عليه أبو حنيفة بآية من القرآن، لأن الله هو الذي أنزل الكتابين من عنده.
جاء على بغداد عصر كثرت فيه الاضطرابات وزاد عدد المعتقلين، وكانت هناك حاجة إلى بناء سجن جديد، ثم سجن آخر، وكثرت السجون، وبنيت على السجن القديم، ولم يعد هناك من يعلم بوجود أبي حنيفة وعنان في زنزانة في باطن الأرض.
ثم صدر قرار بإطلاق سراح بعض السجناء كان منهم عنان بن داود، فخرج ليجد بغداد غير التي عرفها، ووجد أحبار اليهود يبغضونه رغم مرور خمسة قرون من الزمان، لأنه يرفض التلمود، فهاجر من بغداد إلى غرناطة في الأندلس، وعاصر فترة محاكم التفتيش الكاثوليكية، التي راح ضحيتها الكثير من المسلمين واليهود على يد المسيحيين المتعصبين، ولكنه نجا من الموت هناك، ووصل شرق أوروبا، ثم ألمانيا في عهد الحكم النازي، ثم تركيا، وأخيرًا عاد إلى بغداد بعد قرون كثيرة، لتقوده قدماه إلى السجن الذي يرقد فيه أبو حنيفة.
ما كاد عنان يدخل الزنزانة، حتى شعر بالراحة والأمان، وأنه وصل إلى أرض الميعاد، لكن أبا حنيفة انقض عليه، لأنه قطع عليه خلوته، التي يتعبد فيها إلى الله، بعد أن أصبحت الزنزانة ملكًا خاصًا له وحده، وساعدت الفئران أبا حنيفة، فهجمت هي الأخرى على الضيف الثقيل، الذي اقتحم هذا المكان المقدس، ورد عنان الهجوم بمثله، وبعد أن خارت قواهما، جلسا على الأرض، وتأمل كل واحد في وجه الآخر، وتعرف أحدهم على الآخر أخيرًا بعد كل هذه السنوات، وتبين لهما أن القتال من أجل أن يفوز أحدهما بالزنزانة دون الآخر، لا معنى له، لأن هذا المكان ملك لهما سويا، ويسع وجودهما الآن، كما وسعهما قبل مئات السنين.
وقبل أن يسيء أحد الظن بالكاتب، ويقول إن هذه القصة تسعى للتأثير على العرب، وتدعوهم للتنازل عن حقهم في فلسطين، لابد أن نتذكر أن دورينمات لم يكتب للقارئ العربي، الذي لم يعرف هذه القصة إلا عام 2004م، بعد موت المؤلف بسنوات طويلة، وإن كانت هناك محاولة للتأثير، فالمقصود منها اليهود السويسريون، الذي يعيش كثيرون منهم في بلاده، والإسرائيليون الذين يعرفون أعماله، بسبب الاهتمام الكبير بأدب دورينمات من الجامعات الإسرائيلية، أي أنه يمكن اعتبار هذا العمل الأدبي، دعوة لليهود أن يسعوا للعيش في سلام مع العرب، ويرى النقاد السويسريون أن دورينمات كان متفائلاً للغاية، حين اعتقد في عام 1975 بحلول السلام بين المسلمين واليهود، في حين أن الأوضاع مازالت على ما تركها عليه.
سويسرا سجن
إذا كانت القصة السابقة توضح نظرة دورينمات إلى الشرق، فإن النص الذي سنستعرض جزءًا منه الآن يتناول نظرته إلى بلاده، وهو نص ألقاه بمناسبة حصول الأديب والرئيس التشيكي السابق فاتسلاف هافيل، على جائزة أدبية من سويسرا. وبعد أن أشاد دورينمات بالدور الذي قام به هافيل في مقاومة الشيوعية، ورفضه الهرب إلى خارج بلاده، وتحمله لسنوات السجن، تحدث عن السويسريين بصورة ساخرة لاذعة، وكان من بين ما قاله ما يلي:
«بلدي سجن هرب إليه السويسريون، ولأن كل من هم خارج السجن يهاجم بعضهم بعضًا، ولأن السويسريين لن يكونوا في مأمن من أن يهاجمهم أحد إلا في السجن، فإنهم يشعرون أنهم أحرار، وأنهم أكثر حرية من غيرهم من البشر، فهم أحرار في سجن الحيادية –التي فرضتها سويسرا على نفسها- لكن هناك صعوبة واحدة، وهي إثبات أن بلادهم ليست سجنًا، بل هي مهد للحرية، رغم أن السجن من الخارج، شكله سجن، وسكانه هم سجناء، ومن هو سجين، لا يمكن أن يكون حرًا، فالعالم الخارجي لا يري السجناء أحرارًا، بل حراس السجن فقط، لأن حراس السجن لو لم يكونوا أحرارًا، لكانوا سجناء، وحتى يمكن حل هذا التناقض، قرر السجناء فرض الخدمة العسكرية، وعندها يستطيع كل سجين أن يثبت حريته، باعتباره حارس نفسه، ومن خلال ذلك فإن السويسري عنده ميزة جدلية، أنه حر وسجين وحارس في الوقت ذاته، ولا يحتاج السجن إلى أي أسوار، لأن سجناءه حراس، وبذلك فإنهم حراس على أنفسهم، ولأن الحراس أشخاص أحرار، فإنهم يقومون بعقد صفقات تجارية مع العالم كله، ويا لها من صفقات، ولأنهم في الوقت ذاته سجناء، فإنهم لا يستطيعون الانضمام إلى الأمم المتحدة، وتقلقهم الوحدة الاقتصادية الأوروبية، ومن يعش بطريقة جدلية، فإنه يتعرض لصعوبات نفسية، ولأن الحراس سجناء أيضًا، فإنه قد يراودهم الشك، بأنهم سجناء وليسوا حراسًا، وبالتالي ليسوا أحرارًا، لذلك قررت إدارة السجن أن تخصص ملفا لكل شخص، يشعر أنه سجين وليس حرًا، ولأنها تشك في أن الكثيرين يشعرون بذلك، فإنها صنعت أكواما من الملفات، وخلف هذه الأكوام من الملفات هناك أكوام أكثر، ونظرًا لأن هذه الملفات سيجري استخدامها، في حالة حدوث هجوم على السجن، ونظرًا لأن السجن لم يتعرض أبدا للهجوم، فإن الحراس الذين علموا بوجود هذه الملفات، شعروا فجأة بأنهم سجناء، وبأنهم ليسوا أحرارًا، ولم يكن هذا الإحساس، هو ما تريد إدارة السجن أن يشعروا به، وحتى يشعر هؤلاء بأنهم أحرار، وبأنهم حراس، وليسوا سجناء، طالب السجناء من إدارة السجن إبلاغم بالسبب وراء إعداد هذه الملفات عنهم، ولكن نظرا لأن أكوام الملفات أصبحت مثل الجبل، فإن إدارة السجن توصلت إلى قرار بأن هذا الجبل هو الذي صنع نفسه، لأنه حين تتوزع المسؤولية على الجميع، لا يكون هناك أحد مسؤول. إن الخوف من عدم الشعور بالأمان في السجن، هو الذي صنع هذا الجبل من الملفات، ولا يمكن القطع بأن هذا الخوف، ليس له ما يبرره.
إن إدارة السجن التي تحاول أن تضع القوانين المنظمة لكل شيء، تزعم أن السجن لا يمر بأي أزمة، وأن السجناء أحرار، طالما كانوا سجناء مخلصين بصدق لإدارة السجن، في حين يرى كثير من السجناء أن السجن يعاني من أزمة، لأن السجناء ليسوا أحرارًا، بل سجناء، وهذا النقاش الداخلي في السجن، تسبب في كثير من البلبلة، لأن إدارة السجن أرادت الاحتفال بمرور 700 عام على نشأة السجن الذي هو ليس بسجن، بل هو وكر للحيوانات المفترسة يخشاه الجميع، والآن نحن لا نعرف ما الذي سنحتفل به، وهل هو السجن أم الحرية، لأننا إذا احتفلنا بالسجن، فإن السجناء سيشعرون عندها بأنهم مقيدون، أما إذا احتفلنا بالحرية، فإن السجن سيكون عندها لا جدوى من وجوده، لكن نظرا لأننا لا نتجرأ على العيش بدون سجن، فإننا سنحتفل باستقلالنا من جديد، لأن من ينظر إلى سجن الحيادية المستقل من خارجه، لن يستطيع الحكم علينا، وما إذا كنا سجناء أم أحرارا».
هل هذه رفاهية فكرية؟
عندما نقرأ مثل هذه النصوص السويسرية، لابد أن نقارنها بالأعمال الأدبية عندنا، والتي غالبًا ما تركز على مشاكل الحياة اليومية، السكن والبطالة والفساد والتعليم والعنوسة، قصص الحب بكل صورها وأشكالها، الصراع بين الرؤى المختلفة لدور الدين في حياتنا، أما هنا فنجد دورينمات يشغل باله بثقافة غير ثقافته، وعالم غير عالمه، وهو أمر ربما لن نجد له مثيلا في أدبنا، حتى ولو كان له علاقة بنا، مثل الصراع بين البوسنيين والصرب، من خلال عمل أدبي، وكذلك النص الثاني الذي ينظر إلى دولة تعيش في ثراء ليس له مثيل، وحرية بلا حدود، ثم نجد الأديب يتحدث عن سجن. ربما كانت الرفاهية هي السبب وراء انشغال هذا الأدب بمثل هذه القضايا، أو ربما تكون تعبيرًا عن انشغال هؤلاء البشر بغيرهم، حتى ولو كانوا في زنزانة تحت الأرض، حتى ولو كانوا لاجئين يرغبون في دخول السجن السويسري، لينعموا بالحرية داخله، فتمنعهم إدارة السجن، من ذلك، لأنها لا تريد سجناء فقراء، بل ترحب فقط بمن يرغب في العيش بالسجن، لكنه يحضر الأموال الكافية معه.
ويبدو أن التنوع الثقافي لسويسرا، ربما حرمها من أن تكون صاحبة ثقافة مستقلة، لكنه في الوقت ذاته، ربما حررها من قيود الانتماء لتراث بعينه، وأعطى الكاتب مساحة هائلة من الحرية في أعماله الأدبية، التي سيتقبلها الجمهور بقدر ما فيها من إبداع، وليس بناء على علاقتها بالتراث، وهذا الإبداع غير المقيد هو الذي أنتج أعمالا أدبية سويسرية، مازالت تحظى باهتمام عالمي، ولها قراء كثيرون حتى في العالم العربي، ربما ينجح هذا المقال في فتح شهية البعض لقراءة المزيد منها.