يتعرض الإنسان في مجرى حياته لكثير من الأزمات والأوقات العصيبة تنجم عن طبيعة الحياة نفسها. فهو معرض للكوارث الطبيعية والحروب ولمشكلات اجتماعية وأسرية ومهنية قد تسبب الإرهاق النفسي وتترك آثارا عابرة في بعض الأحيان وشديدة في أحيان أخرى . وبفضل القدرات التكيفية للإنسان فإنه غالبا ما يستطيع تجاوز الأزمات والتغلب عليها بعد فترة زمنية تطول أو تقصر . فهو مزود بجهاز مناعة نفسي ،يشبه عمله عمل جهاز المناعة الجسدي، يكتسبه خلال مرحلة نموه ، يساعده في التغلب على المشكلات التي تواجهه . وتعتبر وسائل الدفاع الأولية وآليات أخرى شعورية من ضمن هذا الجهاز. غير أنه في كثير من الاوقات تفشل هذه الوسائل في مواجهة الأزمات والصراعات التي يتعرض لها الإنسان فتبدأ النفس بالمعاناة من جراء ذلك وتتضرر العمليات النفسية ، مثل الإحساس والشعور والإرادة والتفكير واللغة والذاكرة.ويمكن أن تنشأ من جراء ذلك الأمراض والاضطرابات النفسية والجسدية ذات المنشأ النفسي.
كما ويمكن كذلك للأمراض الجسدية أن تقود إلى اضطرابات نفسية معينة، إذ أن العلاقة بين النفس والجسد علاقة وثيقة جدا ولايمكن الفصل عمليا بين العمليات النفسية والجسدية، فكل جانب يرتبط بالآخر ويتبادل معه التأثير.
وتعرف منظمة الصحة العالمية الصحة بأنها حالة من الإحساس النفسي والجسدي والإجتماعي المتكامل. فالصحة من هذه الزاوية ليست مجرد غياب الأعراض المرضية، وإنما هي حالة من الشعور بالتكيف والرضى ضمن علاقات اجتماعية مستقرة.فالمحيط الاجتماعي والمادي وحالتنا النفسية والجسدية تلعب جميعها دورا في نشوء وتطور الامراض الجسدية منها والنفسية، فأمراض جسدية كالسكري والسرطانات والحساسية يمكن أن تنجم عن العوامل النفسية والبيئية ، كما ويمكن للأزمات والصراعات النفسية في مجالات الحياة المختلفة أن تقود إلى قرحة في المعدة أو إلى اضطرابات النوم أو إلى اضطرابات نفسية مختلفة.
وتعريف منظمة الصحة العالمية للصحة يصف حالة مثالية قلما يستطيع الإنسان تحقيقها بصورة دائمة. فنحن قد نكون في لحظة ما في مزاج طيب وننقلب فجأة بدون سبب معروف إلى حالة من الهم والحزن. ونحن عندما نفقد علاقة مهمة بشخص نحبه أو نتعرض لأزمة مادية فإننا نستجيب على ذلك بالحزن العميق ونشعر بتبدلات في الجسد ونفقد الرغبة في القيام بأي شيء. ويمكن النظر لردود الأفعال هذه بأنها ارتكاسات مفيدة تساعدنا في التكيف مع الموقف وتحمينا من الإنهيار وتحافظ على توازن الجهاز النفسي.
ومن البديهي أن يختلف الأفراد في ردود أفعالهم وفي قدرتهم على تحمل الأزمات والصعوبات الحياتية التي يمرون بها، وهي عندما تتجاوز حدود قدرة الإنسان على التحمل يمكنها أن تقود إلى الاضطرابات النفسية.
ولكن هل يمكن القول أن كل ضيق نفسي هو تعبير عن مرض نفسي؟
الإجابة عن هذا لسؤال هي بالنفي طبعا غير أن الحدود بين السواء والاضطراب غالبا ما لاتكون واضحة تماما اللهم إلا في الحالات الشديدة جدا من الاضطرابات النفسية. وعادة يشعر كل شخص معني بنفسه بذلك، فهو يشعر بأن أعراض مرضه تقيده إلى درجة لايستطيع معها مواصلة عمله كالمعتاد وأن أمور حياته لاتسير كما يرغب أو أنه يتصرف تصرفات غريبة عنه كأن يخاف من البقاء وحده أو تسيطر عليه افكارا غريبة ، وقد يلاحظ المحيط ذلك قبل أن يدرك الشخص نفسه أن شيئا لديه ليس على مايرام.
ماهي أشكال الاضطرابات النفسية التي تكثر ملاحظتها؟
في سياق الأزمات النفسية المختلفة يمكن أن تظهر مجموعة كبيرة من الاضطرابات النفسية تطلق عليها تسميات مختلفة حسب الشكل والمنشأ. وبشكل عام هناك الاضطرابات النفسية ذات الشكل العصابي التي ينطوي تحتها مجموعة مختلفة من الاضطرابات التي سنتعرض لذكر بعض منها وهناك مجموعة الاضطرابات الذهانية التي يقع الفصام والاكتئابات الدورية من ضمنها.
والعصابات هي نوع من الاضطرابات النفسية الناجمة عن ظروف ومؤثرات بيئية واجتماعية، وهي غالبا ما تختلف في مظاهرها وأشكالها، وتكثر ملاحظتها على شكل اضطرابات القلق والخوف. والقلق عبارة عن خوف من شيء غير محدد ومعروف يشعر فيه الإنسان ويباغته فجأة بدون أن يستطيع تحديد أسبابه. أما في الخوف المرضي فيكون الخوف من موضوع محدد لا يسبب الخوف في الأحوال العادية كالخوف من الحيوانات أو من الأماكن العامة التي يوجد فيها حشد من الناس أو الخوف من البقاء وحيدا كما ويمكن أن يخاف الإنسان من الإصابة بمرض خطير من غير داع ويتوهم المرض . وهناك شكل آخر من الاضطرابات العصابية يسمى بالاكتئاب العصابي يشعر فيه المريض بأنه مرهق دائما ومنقبض وحزين وأن عليه أن يجبر نفسه للقيام بأبسط الأعمال ويهمل اهتماماته ويعاني من الشك بنفسه ومن القلق ومشاعر الذنب. وغالبا ما تكون الأسباب في التبدلات الحياتية الطارئة التي تسبب فقدان الشعور بالأمن والاستقرار. وأحيانا يصعب فصل هذا النوع من الاكتئاب عن الإكتئابات الذهانية الداخلية المنشأ.
وفي عصابات القسر أو اضطرابات القسر نجد أن المريض يعاني من أفكار وتصرفات لا يستطيع السيطرة عليها ويجد نفسه مجبرا على القيام بها على الرغم من إدراكه أنها عبارة عن أفكار أو تصرفات لاقيمة لها وعديمة المعنى على الإطلاق. فالمريض يقوم مثلا بعملية غسيل متكررة ليديه نتيجة خوفه من أن تكون ملوثة، وبعد إتمام عملية الغسيل يعود ثانية لخوفه من أن تكون المغسلة التي لمسها متسخة وهكذا تتكرر العملية إلى ما لانهاية. ويدرك الشخص هنا بأن ما يقوم به غير سليم وليس له معنى ولكنه لا يستطيع التحرر من ذلك. وإلى جانب هذه الأشكال من العصابات هناك عصابات لا تتميز بمظاهر محددة ، وإنما تتصف بسمات شاذه وغريبة تميز الشخصية ككل. فهناك مثلا الشخصية القسرية أو الوسواسية التي تميل إلى فقدان المرح والجمود والتعلق الزائد بالنظام. أما في الشخصيات من النوع الهستيري فيلاحظ أنها تسعى إلى لفت اهتمام الآخرين والحصول على الاعتراف من خلال تصرفات مسرحية واستعراضية في حين أن الشخصيات الزورية ( العظامية) تميل إلى الشك الدائم وتشعر بأنها مسُت أو جرحت لأقل انتقاد أو ملاحظة وتقيم سلوك الآخرين بأنه موجه ضدها شخصيا.
ولا يوجد أي اضطراب عصابي تقريبا بدون أن يترافق مع القلق. ويغلب أن يترافق القلق مع تأثيرات جسدية كخفقان القلب واضطرابات التنفس وآلام المعدة أو مع تشنج في العضلات. و أغلب العصابات يمكن أن تتجلى على شكل ألم جسدي، كعصاب القلب أو الأمراض الجسدية النفسية.
وتعود أسباب الاضطرابات العصابية إلى عوامل طفولية في الغالب. فالخبرات الصادمة التي لايستطيع الطفل التغلب عليها بنجاح والتربية الصارمة جدا والقاسية واللامبالية وقليلة العاطفة والحب يمكن لها أن تسبب أضرارا يمتد أثرها إلى جميع مراحل العمر اللاحقة. ومقابل هذا الشكل الصارم من التربية يقع القطب المقابل من أسلوب التربية المفرط في الرعاية والعناية والدلال. وهذا الشكل من التربية يمكن أن يقود إلى الأضرار النفسية نفسها التي يقود إليها الشكل الأول من التربية.
ويغلب أن ينقل الأهل بصورة لاشعورية عصاباتهم الخاصة أو اضطراباتهم الخاصة إلى أطفالهم.. وفي كثير من الأحيان يسعى الاطفال الذين لايشعرون بحب والديهم لهم بالبحث عن سبل ووسائل تحقق لهم الحصول على هذا الحب وفق تصوراتهم الخاصة ، أي أنهم يبحثون عما ينال رضى وإعجاب والديهم فيقومون به بغض النظر عما يريدونه هم أنفسهم. وهذه المحاولة للتطابق مع توقعات الوالدين غالبا ما تقود الأطفال إلى إنكار الحاجات والمشاعر الخاصة وعدم التعبير عنها والاعتراف بها وينادون بحاجات ورغبات والديهم ، حيث يعتقدون - بصورة لاشعورية - بأن هذا التطابق هو السبيل للحصول على الحب ، فيفقدون بذلك الحيوية والعفوية.
وتبقى هذه الصراعات الطفولية كامنة تفعل فعلها بشكل لاشعوري حتى يواجه الفرد فيما بعد مواقف حرجة وأزمات حياتية مرهقة تضعف من جهاز المناعة النفسي مما يقود إلى إثارة هذه الصراعات من جديد الأمر الذي يمكن أن تكون عاقبته إحدى أشكال الاضطرابات النفسية العصابية.
وعند توفر السبب الميسر لنشوء العصابات فإنها يمكن أن تنشأ في أي وقت وفي كل مرحلة عمرية. وفي حين أن غالبية الاضطرابات العصابية يمكن أن تختفي من تلقاء نفسها فإن بعضها الآخر يترسخ وتزداد شدته مع الزمن . فالخوف من موقف معين يمكن أن يمتد ليشمل مواقف متعددة مشابهة. أو يمكن لقسر الاغتسال أن يمتد من عشرة إلى خمسين مرة في اليوم، الأمر الذي يقود إلى تضيق في مجالات الحياة اليومية للإنسان وتصبح في رمتها تدور حول الاضطراب على حساب المجالات الأخرى كالأسرة والمهنة..الخ.
ومن المهم هنا كشف الاضطرابات النفسية بصورة مبكرة وتشخيصها ومعالجتها بوساطة المعالجة النفسية أو بوساطة بعض الأدوية التي يتم تناولها تحت إشراف طبي.
وتتميز المجموعة الثانية من الاضطرابات النفسية ،والتي تطلق عليها تسمية الذهانات داخلية المنشأ ، بمجموعة من المظاهر الشاذة والغريبة عن الخبرة الإنسانية السوية وتقود إلى عزلة الإنسان الكلية عن محيطه الاجتماعي وتأخذ عدة أشكال تطلق عليها تسميات مختلفة حسب الأعراض الملاحظة. ويمكن ضمن هذه المجموعة ذكر الفصام والمرض الهوسي الاكتئاب.
والفصام عبارة عن مرض نفسي يترافق بتبدلات متنوعة في الشخصية ككل، يشعر المريض فيه بأنه ممزق وغير متأكد من هو يته الذاتية . وغالبا ما يكون مرضى الفصام غير قادرين على تقييم الواقع بصورة معقولة وتكون إدراكاتهم مشوهة. وتضطرب عمليات التفكير في مرض الفصام فيبدو التشتت فيه، فينتقل المريض من فكرة إلى أخرى بدون أن يربط بينها رابط و يصبح ما يدور في داخل المريض غير مفهوم أو غير قابل للفهم من الآخرين، ومقارنة مع الماضي تتراجع حيوية المريض وتصبح محدودة وغالبا ما ينعزل عن العالم الخارجي ويعيش في عالمه الخاص. وإلى جانب هذه المظاهر نلاحظ درجات مختلفة من الأوهام والهلوسات واضطرابات الحركة، فيتوهم المريض أن أثاث الغرفة يتحرك أو يتمدد ويتطاول أو يتخيل أن الشجرة تحولت إلى عملاق أو جني…الخ ويتخيل سماع أصوات تحدثه وتأمره بفعل أشياء مختلفة فتناقشه ويناقشها بصوت مسموع أو يرى أشياء لاوجود لها.
وللفصامات أشكال مختلفة حسب الأعراض الملاحظة على المريض فهناك الشكل الزوري ا********آو*****************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************************الاستقرار******************************************************************************************************الاكتئاب******************الاسم********************الاكتئاب***********يشهد بعض********************************************لشكل الهوسي الخالص من المرض. والمقصود بوجود أطوار من المرض أن المرض يتأرجح بين فترة من المرض التي يعقبها فترة من الشفاء وهكذا. والمريض بالهوس شخص مفرط النشاط ذو إنتاجية عالية تجتاحه الرغبة العارمة للحركة وكثرة الحديث وسرعته ، فإذا ما بدأ بالحديث يدخل من فكرة إلى أخرى ويتوه بالافكار ولا يستطيع العودة للموضوع الأصلي، بالإضافة إلى مبالغته في تقديره لذاته وقدراته فهو يطرح مشاريع كبيرة وثورية ويحاول تطبيقها في الواقع الأمر الذي يقود إلى توريط نفسه في مآزق لا تحمد عقباها.والمهووس لا يشعر بمرضه ولا يدركه ويشعر بالصحة والعافية ومن هنا يصعب إقناعه بالعلاج وفي نهاية الطور الهوسي يشعر المريض وكأنه قد سقط من مكان مرتفع،يعقبه طور عابر من الاكتئاب.
وفي الطور الاكتئاب لا يستطيع المريض أن يكون هو ذاته، إنه يشعر بالتشنج والفراغ والعدمية وفقدان الإرادة والاهتمام بأي شيء، ولا يستطيع وصف خبرته فالتعاسة تجعله غير قادر على الكلام والوصف ويشعر بالإرهاق حتى من أبسط الأمور كالطعام والشراب. وغالبا ما يشعر المريض بالتوتر الداخلي والخوف والشكوى المستمرة . ويكون تعكر المزاج على أشده صباحا ويتحسن مساء. ويترافق العرض الاكتئاب بالتعب واضطرابات النوم وبأوجاع جسمية مختلفة وفقدان الشهية ومشاعر الضغط والصمم والثقل. ويمكن ظهور تصورات هذيانية لدى بعض المرضى بالاكتئاب، فتدور أفكارهم حول اعتقادهم بأن مرضهم مرضا غير قابل للشفاء ( هذيان المرض) أو أنهم في مأزق مالي كبير وأنهم على وشك الإفلاس( هذيان الفقر) أو أنهم يحملون ذنبا عظيما بسبب خطأ ارتكبوه ( هذيان الخطيئة).
وهناك القليل حتى الآن من المعارف حول الأسباب البيولوجية للذهانات داخلية المنشأ( داخلي المنشأ يعني ناشئ من الداخل أو غامض السبب) ويعتقد بوجود عدد كبير من العوامل التي تتجمع وتتركب مع بعضها كالاستعداد الوراثي للمرض ومؤثرات الطفولة المبكرة ونمط الشخصية ، في مرض الاكتئاب، والأحداث الحياتية المرهقة التي يمكن أن تثير الاستعداد الكامن للمرض.
كما ويؤكد علماء التواصل على أن الأعراض الفصامية عبارة عن ردود فعل على اضطرابات العلاقات الأسرية فيعاني الطفل من الصراع والتشتت بسبب المواقف المتناقضة لوالديه التي تقوده إلى صعوبات في الإدراك الحقيقي للواقع.
وتتطور الذهانات الداخلية المنشأ على أطوار، فهي يمكن أن تظهر مرة واحدة في حياة المريض ويمكن أن يستمر الطور عدة أشهر أو سنوات ، ومن الممكن تحقيق الشفاء التام في حالات كثيرة وفي بعض الأحيان يمكن أن تبقى آثارا لاحقة للمرض مثل ضعف الدافع أو الإرادة والنقص في الحيوية . ويمر المرضى بفترات يملكون فيها أفكار انتحار ومن هنا لابد من التعامل مع تلميحات الانتحار التي يصرح بها المرضى بجدية.
والذهانات التي تكون ناجمة عن أسباب معروفة تسمى الذهانات خارجية المنشأ. وهي تتصف بأعراض مشابهة لأعراض الذهانات داخلية المنشأ إلا أن علاجها يتم من خلال معالجة السبب الذي قاد إليها. وهناك أكثر من 200 سبب معروف يمكن أن تسبب هذا الشكل من الاضطرابات النفسية. فأمراض الدماغ المختلفة ونقص التروية بسبب تصلب الشرايين وسرطانات الدماغ وإصابات الدماغ الناجمة عن الحوادث ومرض الزهايمر وباركنسون ورقاص هونتينغتون وأمراض السكري والغدة الدرقية والأمراض المعدية وسوء تناول الكحول والإدمان تسبب الأعراض الذهانية.
أشــــكال المـــعالجة
تتنوع أشكال المعاجة بحسب نوع الاضطراب فمنها المعالجة النفسية ومنها الدوائية ومنها ما هو توليف بين هذين النوعين من العلاج. وتهدف المعالجة النفسية إلى مساعدة المريض على تخطي الأزمات القصيرة والطويلة الأمد والتغلب على أعراض معينة أو التخفيف منها وتشجيع النمو المناسب للشخصية. ويمكن إجراء المعالجة النفسية بشكل فردي أو ضمن المجموعات. والشرط الأساسي دائما هو أن يكون المريض مستعدا لمناقشة مشكلاته وتجريب إمكانات سلوك جديدة وإعادة بناء حياته ثانية بشكل فعال.
ولا تستطيع المعالجة النفسية تحقيق وإنجاز إلاّ ما يريده المريض من نفسه. وهناك العديد من الاتجاهات العلاجية التي تقوم على مبادئ نظرية مختلفة وتقدم طرقا فعالة. وعادة ما يكون المعالج النفسي مؤهلا في اتجاه واحد من هذه الاتجاهات غير أنه يستخدم عناصر وإجراءات من الاتجاهات الأخرى. وتحتل كلمة المعالج النفسي مكان الصدارة في كل معالجة، والكلمة هنا تستخدم كدواء وتهدف إلى مساعدة المريض على الشفاء بالإضافة إلى أنه يمكن استخدام وسائل أخرى كالأدوية الكاذبة أو الأدوية النفسية أو حتى الأجهزة. وحتى المعاناة الشديدة يمكنها الشفاء من خلال المعالجة النفسية. غير أنه ليس لهذا ضمان أكيد كما هو الحال في الأمراض الجسدية التي تعالج بالأدوية، فالنفس الإنسانية معقدة جدا وغير مدروسة في كثير من جوانبها بعد. وعلى الرغم من ذلك توجد نسبة كبيرة من الاضطرابات النفسية التي تحقق درجة عالية من الشفاء بالعلاج النفسي.وتشكل المعالجة التحليلية والسلوكية الأشكال العلاجية الأكثر انتشارا . وترى المعالجة التحليلية أن أسباب الاضطرابات النفسية غالبا ما تنجم عن الصراعات اللاشعورية في سن الطفولة وبالتالي فهي تهدف إلى جعل هذه الصراعات شعورية . ويمكن تشبيه عملية التحليل بحل الكلمات المتقاطعة، حيث يتم البحث عن الحل بالتدريج وخطوة خطوة. فالمعالج النفسي يقوم ببناء الحل بالتدريج من خلال الأحلام والخواطر والذكريات وسيرة الحياة عند المريض.
ويذهب العلاج السلوكي من أن كل أشكال السلوك بما في ذلك الأشكال غير السوية والمضطربة هي أشكال متعلمة وبالتالي يمكن تقويتها أو محوها من خلال وسائل معينة. وهو يركز على المظاهر الخارجية للمرض مستخدما الخفض التدريجي للحساسية للتخفيف من حدة الخوف مثلا بصورة متدرجة حيث يعتاد المريض مواجهة ما يخيفه بدون أن تظهر عليه أعراض الخوف، و تمارين رفع الثقة بالذات لإزالة المخاوف الاجتماعية بالإضافة إلى تقنيات أخرى.
وهناك أشكال من الاضطرابات والأمراض النفسية التي تعالج بالأدوية النفسية كالذهانات داخلية المنشأ حيث يمكن هنا التخفيف من حدة المرض أو التغلب عليه. والأدوية النفسية عبارة عن مواد يمكن لها أن تكبح بعض الإثارات الشديدة وتؤثر على المزاج والدافع والتفكير عند المرضى. فالمزاج يمكن رفعه والقلق يمكن التخفيف منه لفترة عابرة. ويمكن تقسيم الأدوية النفسية إلى ثلاثة أنواع وهي : الأدوية العصبية ومضادات الاكتئاب والمهدئات. وتستخدم الأدوية العصبية في حالة الفصامات والمرض الهوسي الاكتئاب، فتخفف من مظاهر القلق والتوتر وخداعات الحس واضطرابات النوم والتفكير الأمر الذي يسهل البدء فيما بعد بالمعالجة النفسية.أما مضادات الاكتئاب فهي غالبا ما تستخدم كما يشير اسمها لمعالجة الاكتئاب. وحسب نوع الأعراض يمكن استخدام أدوية خافضة للمزاج أو رافعة للدافع. ولهذه الأدوية أعراض جانبية كالشعور بالتعب والدوار والتعرق وجفاف الأغشية المخاطية.
وتمتلك المهدئات تأثيرات مهدئة ومزيلة للقلق وموازنة للنفس، غير أنها تحمل خطر التعود عليها لذلك لا ينصح باستخدامها إلا بإشراف طبي.
المساعدة دون استسلام
مثلما يعاني المرضى نفسيا من اضطرابهم يعاني كذلك الكثير من أهلهم وأقاربهم من مشكلات مرهقة جدا وبالتالي فهم يحتاجون كذلك إلى مساعدة ودعم وإرشاد في كيفية مواجهة هذا الموقف العصيب. وغالبا ما يقف الأهل والأقارب عاجزين عن تقديم المساعدة، وذلك مرده إلى صعوبة ملاحظة الأعراض في البدء وصعوبة تمييزها عن الأزمات العابرة، فلا تؤخذ مأخذ الجد. وهناك فكرة مفادها الاعتقاد أن الأمراض النفسية موروثة. ومع صعوبة إثبات مثل هذا الأمر دائما، إلاّ أننا نجد أن كثير من الأفراد يعممون هذه السمة على جميع أفراد الأسرة فيصابون بالخوف من جهة ويحملون أنفسهم أو بعضهم مسؤولية المرض.
ويقارن بعض الأهل سلوك المريض بسلوكهم فيكتشفون وجود بعض الشبه بين أفكاره ورغباته وأفكارهم هم فيتساءلون إن كانوا هم مرضى كذلك أو إن كانوا في طريقهم للمرض، ومنهم من يحمل مشاعر الذنب لاعتقاده بأنه قد تصرف مرة مع المريض بصورة مؤلمة قبل المرض ولم يلاحظ حالته. وهذه غالبا ما تقود إلى محاولة الأهل للتكفير عن هذه المشاعر فيتقوقعون
ويزدادون عزلة عن الآخرين وتزداد مشكلاتهم وصراعاتهم.. وبعضهم يرى أن المرض النفسي عار لابد من التكتم حوله فيعزلون المريض وأنفسهم عن العالم الخارجي فلا يجدون من يحدثونه عن معاناتهم ومشكلتهم فيفقدون بذلك إحدى إمكانات الدعم الاجتماعي والنفسي التي يمكنها أن تخفف من إرهاقاتهم إلى حد كبير.
وأخيرا فدرهم وقاية خير من قنطار علاج. والوقاية من الاضطرابات النفسية تبدأ منذ الطفولة المبكرة وتمتد إلى مراحل العمر المتأخرة. ففي الطفولة الباكر تتحدد من خلال التربية كيفية مواجهة الإنسان للصراعات والأزمات في المستقبل، وتعتبر الرعاية والحب والاهتمام المتبادل بين الأهل والأطفال من أهم الشروط اللازمة للنمو النفسي السليم. أما في سن الرشد فينبغي مواجهة الأزمات وعلائم الاضطرابات النفسية بصورة مبكرة لمنع ظهور المرض النفسي ومحاصرته، وفي سن الشيخوخة لابد من تقديم الدعم النفسي والمعونة للكبار في السن في مواقف الأزمات النفسية والحياتية المتنوعة. بالإضافة إلى ذلك لابد من تقديم الرعاية للمرضى الذين تم علاجهم ومتابعتهم وإعادة تأهيلهم لمنع عودة المرض النفسي أو الاضطراب.
وما تزال الخدمات النفسية في البلاد العربية قاصرة عن تقديم الرعاية المناسبة لجميع الفئات العمرية ولاتلقى الكثير من الدعم الحكومي . و على الرغم من الضرورة الملحة لذلك يلاحظ وجود نوع من التهميش لدور التخصصات النفسية غير الطبية التي يمكنها أن تقدم خدمات لا يستهان بها في الوقاية والعلاج وإعادة التأهيل بالتعاون مع المجال الطبي.إلاّ أن الصورة لا تبعث على التشاؤم إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الانتشار المتزايد للمؤسسات التي تقدم مثل هذه الخدمات في أكثر من بلد عربي .