إن الله سبحانه وتعالى اختارنا أمة للرسالة، وجعلنا خير أمة أُخرجت للناس إن نحن فهمنا عن الله مراده، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسالته، وإن كنا على قدمٍ يرضى فيها الله عنا، حتى نكون هداية للعالمين ولا نكون فتنة للناس، ولنظل بذلك معمِّرين للكون وبناة حضارة شامخة شاهدة على عظمة الإسلام وإعجاز رسالته.
وإذا كانت الحضارات دائرة بين صعود وانحدار لارتباطها بأفعال الإنسان فقد أرشدنا الله تعالى إلى ما يصحح هذه الأفعال وهو مقام التوبة، والتوبة عادت كلمة إذا ما سمعها المؤمن اختزل معناها وجعلها خاصة بارتكاب المعاصى، وجعلها أمراً غيبياً يتعلق باليوم الآخر، والتوبة أعظم من ذلك! تشمل هذا وتزيد عليه، فالتوبة حالة نقد ذاتى. حالة من مراجعة النفس.. حالة من الرقابة الإدارية. ومن ثم فالتوبة تعد إحدى الأدوات المهمة فى بناء إنسان الحضارة، فالإنسان الذى يربى نفسه على التوبة بمفهومها الصحيح والشامل هو إنسان قادر على بناء المجتمع الإنسانى وتشييد أركانه.
والمعنى الصحيح للتوبة يظهر جلياً فى قول رسول الله، المصطفى الحبيب والمجتبى المعصوم، سيد الكائنات: «واللهِ إنى لأستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه فى اليوم أكثرَ من سبعينَ مرَّة» (صحيح مسلم) فهل كان يتوب عن معصية يرتكبها، أم عن كبيرة يقع فيها؟ حاشاه. فمن أى شىء كان يتوب - صلى الله عليه وسلم؟! ولكنها كانت نقداً ذاتياً ومراجعة، ليعلمنا المحاسبة لعمل اليوم: ما الذى قصرنا فيه؟ ما الذى كان فى ذمتنا فلم نفعله لله؟ ما الذى كان ينبغى أن يتم على وجه هو أحسن من ذلك وأجدى؟ والتوبة فى اللغة: الرجوع، تاب إليه أى: رجع إليه، ومنها المراجعة، ومنها المراقبة، ومنها المحاسبة على حد ما قال سيدنا عمر، رضى الله عنه: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الْحسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فى الدُّنْيَا» (رواه الحاكم فى المستدرك).
فالتوبة لو فهمناها لأدخلناها عنصراً من عناصر الإدارة، وعنصراً أساساً فى الاقتصاد الذى يجرى بين الناس، وعنصراً أساساً فى الحكم، وعنصراً أساساً فى السياسة، خارجيِّها وداخليِّها، وعلى هذا المفهوم كيف لنا أن نبنى حضارة دون استيعاب مفهوم التوبة فى أدبياتنا وثقافتنا! والتوبة معنى عظيم، ودلالتنا على المعنى الصحيح الواسع الذى أراده الله ليس معناها أن الفهم المحدود للتوبة محض خطأ، بل هو عجز وقصور، فالمرء إذا ما أذنب ذنباً وجب عليه التوبة، فـ«كلُّ بَنِى آدَمَ خَطَّاء، وَخيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ» (رواه الترمذى فى سننه) وكما علّمنا سيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، أنك إن فعلت ذنباً وجب عليك أن تقلع عنه، وأن تظهر الندم عليه، وأن تعزم ألا تعود لمثله أبداً، ثم بعد ذلك إن كان متعلقاً بحقوق العباد أن ترد إلى العباد حقوقهم، وإن كان متعلقاً بالله - والله كريم - فإن الله يسامحك ويغفر لك لأنه عفو غفور رحيم، لا تضره المعصية كما لا تنفعه الطاعة. والتوبة ينتج عنها المراجعة، ولما أن فرَّغنا التوبة من معناها الدنيوى وقصرناها على غيب الآخرة فسر المفسرون قوله تعالى: «يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى» (هود: 3) أى: إلى مدة حياتكم، ولكننا إن أرجعنا لها المعنى الواسع، فيظهر لنا ضرورة المراجعة الدائمة، لأن فن المراجعة وسنة الله سبحانه وتعالى فيه أن يستمر ذلك دائماً، ويرشدنا سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم، إلى أن نفعل ذلك كل يوم، فالله يصحح لنا أعمالنا ويحفظ علينا نظامنا وييسر لنا أفعالنا إلى أجل مسمى. لابد بَعدَه - قصر أو طال - من مراجعة أخرى. ومن توبة ثانية. من بعد توبة.
وليتيقن المرء أن الله «عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ» يصلح الحال إذا ما تحققنا بهذا، ولا يكفى واحداً فينا أن يفعل ذلك حتى يتغير المجتمع أو تصحو الأمة «وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (النور: 31)، إذا أراد المؤمن أن يكون واحداً من أمة ويريد لهذه الأمة أن تتقدم البشر وأن تقوم برسالتها، وأن تكون لها العزة والكرامة فعليه أن يفعل ذلك وأن يأمر غيره به، فواحد لا يكفى، من تاب على مستواه بارك الله له فى حياته وجعله مفلحاً فيها ولا نرى أثر ذلك فى الأمة إلا إذا تحرك جمع منا يتوب إلى الله فينصر الله به الأمة.
ويقـول ربنا سبحانه وتعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً» (التحريم: ، و«نَصُوحاً» من النُّصح، ويقول صلى الله عليه وسلم: «الدِّينُ النَّصِيحَة» (صحيح مسلم)، ونفهم نحن «نَصُوحاً» على أنها توبة صادقة، ولكن لو تعمقنا فى «النون والصاد والحاء» فى «النصح»، وجدنا أن النُّصح هذا له أركانه وله شروطه، ومنها أن نكون مجتمعاً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، عن صواب وعلم ووعى وإخلاص، وقد فنيت حضارات عديدة بسبب إغفالها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
هذه خلاصة النصيحة. فإذا عرفنا ذلك عرفنا أن توبتنا ينبغى أن تتصف بتلك الصفات: أن تكون لله، وأن تكون صادقة، وأن تكون ذات همة. وهذه الهمة إنما هى لتغير أحوالنا إلى أحسن حال- كما يريدنا الله عز وجل- فى جانبيها: فى جانب الشهادة وفى جانب الغيب، لأنه سبحانه وتعالى عالِم الغيب والشهادة، وبيده الملك والملكوت، وهو رب الدنيا والآخرة، فالاختزال بتر لمراد الله من أوامره وإرشاداته.! ونحن نأمل أن يعود الأمر إلى الأمر الأول، لا أن نهتم بدنيانا ونترك آخرتنا، ولا أن نهتم بآخرتنا ونترك دنيانا، ولكن علينا أن نفهم عن الله مراده كما أراد، فنعبده كما أراد سبحانه، ونعمر كونه كما أرشدنا فى كتابه، ونزكى أنفسنا مثلما دلنا فى هدى نبيه، صلى الله عليه وسلم.