بقلم : حسني عبد الحافظ
إن النظرة إلى رياض الأطفال، باعتبارها دون التعليم الأساسي، هي بحسب أكثر من دراسة علمية حديثة نظرة قاصرة، تتطلب إعادة التقييم ووضع رؤى جديدة ترفع من شأن هذه المرحلة.. فالذهاب إلى الروضة ليس مجرد حدث عابر للطفل وأهله، بل هو نقلة نوعية ذات دلالات وأبعاد جديرة بالتأمل العميق، حيث يخرج الطفل لأول مرَّة من عالم الأسرة المحدود إلى عالم يتسم بالرحابة والتنوع، وتضاف إليه مرجعية جديدة إلى جانب مرجعية الأسرة، وهي المرجعية المُجتمعية.. وفي ضوء المُشاركة والمُعطيات الدينامية التي تسود عالم رياض الأطفال، تتشكل شخصية الطفل، وتتصاعد وتيرة نموها متهيئة لمرحلة أخرى جديدة.
«رعاية الطفولة المُبكِّرة للتنمية».. مفهوم جديد ورؤية مُستقبلية
من المُصطلحات ذات الصلة الوثيقة بتطوُّر مفهوم التربية والتعليم في مرحلة رياض الأطفال مُصطلح «رعاية الطفولة المُبكِّرة للتنمية»، وهو حديث العهد نسبيــًا، تتداو له المُنظَّمات والهيئات التربوية الدولية، وتسعى إلى توسيع دائرة نشره وتطبيقه حول العالم، ومفاده: «أن الاستثمار الجيد في السنوات الأولى يُعزز التنشئة على الوجه الأمثل، وهو يجمع بين عِدَّة مجالات مُختلفة، منها: الصحة والتغذية والتعليم في الطفولة المبكرة والتنمية في المُجتمعات المحلِّية وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وتنمية قُدرات الطفل والاقتصاد وغير ذلك من المجالات».
ويقول توماس فينود «لمَّا كان صغار الأطفال في العالم، هم الرأسمال البشري للمُستقبل، فإن رعاية الطفولة المُبكِّرة للتنمية، أصبح مُعترفــًا بها كعُنصر أساسي في أي استراتيجية للتنمية طويلة الأجل، وقد ثبت أن الفوائد التي تنجم عن رعاية الطفولة المُبكِّرة من أجل التنمية، والتي تعود على الفرد والمُجتمع ككُل، تتجاوز التكاليف إلى حد بعيد».. ويضيف قائلاً: «لقد نشـأ الاهتمام الدولي برعاية الطفولة المبكرة للتنمية، نتيجة الوعي بأن النمو الفكري والعاطفي والجسدي والتنشئة الاجتماعية واكتساب الثقافة تتفاعل جميعها في تشكيل حياة الطفل الصغير».
ويُمكن قياس مدى النجاح، الذي يتحقق من تطبيق مفهوم «رعاية الطفولة المبكرة للتنمية»، في رياض الأطفال من خلال قُدرة الأطفال على اكتساب المهارات والسلوكيات السليمة التي تـُساعدهم على التصرُّف بفاعلية في بيئة معيشتهم القائمة، والقـُدرة على التكييف بنجاح كُلَّما حدث أي تغيير بتلك البيئة».
الاتجاه نحو ذاتية التعليم
ثمة اتجاه قوي، يدعو إليه غير واحد من كبار خبراء التربية الحديثة، نحو إعطاء الطفل المُنتسب إلى رياض الأطفال المزيد من فـُرص التعلُّم في إطار ما يُعرف بـ«التعليم الذاتي»، حيث يُمارِس الطفل العمل بنفسه، تحرِّكه حاجته الذاتية للتعلم عن طريق الأدوات والمواد والأشياء الموجودة حوله، والتوصُّل إلى الإجابة الصحيحة بنفسه من خلال التجربة والاستكشاف والأسئلة، أو بمُساعدة استرشادية من مُعلِّميه الذين يُقدِّمون له برامج تعتمد بالأساس على الاستكشاف.. وكذا بمزيد من الدعم عن طريق:
- «تنظيم بيئة تربوية حسب أُسس وقواعد واضحة لأهداف مُحددة، تـُحفـِّز الطفل على التعليم الذاتي في جو شبيه بالجو الأُسري».
- «توفير ألعاب وأنشطة مُعدَّة مُسبقــًا للطفل، تـُساعده على النمو، وتزيد من قوَّة التركيز لديه والقـُدرة على المُلاحظة وتكوين العلاقات بين الأشياء، بالإضافة إلى تنمية خياله».
- «يتم اختيار الأنشطة وأدوات الألعاب بعناية كبيرة وفقــًا لاشتراطات ومعايير تربوية ونفسية واجتماعية، مع مُراعاة أن لكُل سِن أدواته وألعابه التي تتناسب مع ميوله واستعداداته وقُدراته».
وبحسب الداعين للتوسُّع في هذا الاتجاه من التعليم في رياض الأطفال، فإنه يُحقق المزيد من الفوائد، ومنها:
ـ «مُساعدة الطفل، على تنمية سلوك إيجابي تجاه التعليم وتعزيز القُدرات على حل المُشكلات».
ـ «التشجيع على تجربة الأفكار واستخدام الأدوات بإبداع.. وإدراك العلاقة بين السبب والنتيجة».
ـ «اكتشاف الطفل للمعرفة بنفسه يجعله أكثر ثقة وفهمــًا لها».
ـ «التأهيل الجيِّد، للولوج إلى مرحلة التعليم الابتدائي على نحو أفضل».
ذكاء الأطفال.. بين التعليم والعاطفة
ومن الرؤى الجديدة التي أفضت إليها نتائج بعض الدراسات والأبحاث العلمية، لتحقيق التقدُّم التعليمي والتربوي في مرحلة رياض الأطفال، ضرورة المواءمة بين قُدرات الطفل ومدى ذكائه التعليمي، والمُتمثل في :
- المعرفة والمهارات.
- الحقائق والمفاهيم الرياضية.
- فهم معاني الكلمات.
- عمليات العلوم.
- المهارات الكتابية، والشفوية.
وبين حالته المزاجية والنفسية ومدى ذكائه العاطفي، والمُتمثل في :
- الوعي بالذات، وبالآخرين.
- القبول بالذات، وبالآخرين.
- المشاعر والاتجاهات.
- المسؤولية الشخصية.
- المعنى الشخصي.
- الاستقامة والأخلاق.
ويشير جوين دوتي، في دراسة قيِّمة له حول «تنمية الذكاء العاطفي في مرحلة الروضة»، إلى أن الإدراك الجيِّد، لأبعاد العلاقة بين الذكاء التعليمي والذكاء العاطفي، لدى المُنتسبين لمرحلة رياض الأطفال، يُحقق نتائج طيِّبة على صعيد النمو ألتحصيلي والمعرفي، حيث إنه «عندما يعمل الدماغ، في حالة تكون فيها العواطف مُضطَّربة، لا يُمكن اتخاذ أي قرار مهما كان بسيطـًا، لأن جُزء الدماغ الذي يتحكَّم بالعواطف يجعل الطفل غير قادر على معرفة كيف يتصرف على نحو صحيح حيال الخيارات التي يتخذها.. فالعواطف، كنظام توجيه داخلي، تعمل على التنبيه عندما تكون لدينا حاجات غير مُلباه، ويُمكن أن تكون هذه الحاجات عاطفية، مثل الحاجة للقبول أو النمو، وقد تكون حاجات تعليمية مثل الحاجة إلى طُرق مُختلفة للتقييم مبنيَّـة على الذكاء، وعندما تـُدمج العواطف بالمنطق والمهارات التعليمية، فإنها تـُنتج أدوات قويـَّة تقود إلى النجاح».. ويُمكن لمُعلِّم رياض الأطفال، تحقيق عملية الدمج هذه من خلال تهيئة جو صفِّي يتسم بالانفتاح والإيجابية، ويبث الثقة والاحترام في نفوس الأطفال.
الفنون.. والطفل المبدع
ومن أهم المجالات، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، التي ترتكز عليها قواعد التربية وتطوير التعليم في مرحلة رياض الأطفال مجال الفنون، ومنه فن القصص الذي يُشار إليه باعتباره «من أفضل الوسائل التي يُقدَّم عن طريقها ما نـُريد توصيله للأطفال، سواء أكان ذلك قيمـًا أو معلومات».. والقصة قد تكون واقعية أو خيالية أو لُغزًا، وجميعها يجب أن يكون قائمـًا على العدالة والنزاهة والأخلاقيات السليمة البعيدة عن مُثيرات الخوف والرُعب، على أن توظَّف أساليب السرد على نحو جيد، ومن هذه الأساليب:
- الحرص على استخدام لُغة مُبسَّطة تخلو من التعقيد، ومن الشكل التقليدي للسرد، على أن تتسم بمزيد من تشويق الأطفال لمُتابعة أحداث القصة، وكذا بالإيماءات والحركات والأصوات المُحببة للأطفال».
- «يُمكن توظيف بعض الأطفال للمُشاركة في سرد القصة، مع السماح لهم بإضافة أفكارهم وما يدور في أذهانهم من خيال».
- «استخدام الصور والرسوم المُسلسلة لأحداث القصة، وكذا المُجسَّمات والعرائس المُتحرِّكة أو الشفافيات، مع الاستعانة بالتقنيات الحديثة المُعينة في هذا الشأن».
- «يُمكن تحويل القصة إلى عمل تمثيلي، حيث توزَّع الأدوار على الأطفال، واستخدام الزِّي المُناسب لكل شخصية، مع مُراعاة الألوان المُحببة للأطفال.
ويستهدف السرد الجيد للقصة تحقيق مجموعة من الأهداف، أهمها:
- «التدريب على حُسن الإصغاء».
- «تنمية القيم الأخلاقية».
- «تنمية القُدرة على الانتباه، والمُلاحظة».
- «تنمية الذوق الفني».
- «تنمية القُدرات اللغوية».
- «تقوية العلاقة مع الآخرين».
- «لثقة بالنفس، من خلال أداء الأدوار التمثلية للقصة أو المُشاركة في سردها».
- «تنمية القُدرة على التعبير عن النفس وعن المواقف الإنسانية».
- «إدخال البهجة والمُتعة، إلى نفوس الأطفال».
- «تنمية حُب البحث والاطلاع».
- «تقدير قيمة الكتاب وفن التعامل معه».
- «الاستفادة المعرفية والمعلوماتية ».
- «تنمية القُدرة على حل المشكلات».
وإلى جانب القصة، ثمة فنون أُخرى عديدة مُحببة إلى نفوس الأطفال في دور الحضانة، ويجب من خلال الدورات التدريبية للمعلمين تقديم رؤى جديدة لتدريس هذه الفنون، والاستفادة من نتائج الأبحاث والدراسات العلمية الحديثة في هذا الشأن.. وكان كل من فتحي أحميد، ورلى الفرا، من الجامعة الأردنية، قد أشارا في بحث قيِّم لهما، تحت عنوان «استخدام الفنون الدرامية في رياض الأطفال وقابليتها لتنمية الإبداع»، إلى أن هذه الفنون، إذا قُدِّمت على نحو جيِّد، فإن مردودها طيِّب للغاية، كونها «تـُمثل بيئة تربوية غنيَّة ومُحفـِّزة، تستثير قُدرات الأطفال، وتدفعهم دفعــًا إلى الإبداع، ويجب أن يُدرك المُربون أن أكثر الأمور مُتعة مع الأطفال في دور الحضانة، تكمن في الاقتراب من خبراتهم الغضة التي تـُعد بمثابة شـُعاع الانطلاق الذي يفسح لهم المجال للإبداع».
ومن خلال ما أفضت إليه نتائج الأبحاث والدراسات، يُمكن إبراز أهمية رياض الأطفال كمرحلة تعليمية إلزامية في النقاط الآتية :
- «ضرورة مُلحَّة لتحسين مدخلات عمليات التعليم والتعلَّم في المراحل التعليمية الأساسية، حيث يعتمد إنجاز التلميذ في المرحلة الابتدائية على رصيده المعرفي والمهاري والسلوكي الذي اكتسبه في مرحلة رياض الأطفال».
- «هي مرحلة نمو تكاملي، في الُلغة والعاطفة والعلاقات الاجتماعية».
- «فيها تتشكَّل البذور الأولى للشخصية».
- «تبيَّن أن أساسيات التعليم التي تـُكتسب في مرحلة رياض الأطفال لها أثر كبير على زيادة النمو الاقتصادي في الدول التي تولي تلك المرحلة الاهتمام الكافي، والتي تعتمد على العلاقة الوثيقة بين فـُرص تحقيق التنمية البشرية».. وبحسب غير دراسة أكاديمية، فإن برامج رياض الأطفال ذات الجودة العالية، لا تـُحسِّن من حياة الطفل وأُسرته فقط، بل ينتج عنها مكاسب عديدة للمجتمع..
المراجع
1- أحميد، فتحي، والفرا، رلى (2010م): استخدام الفنون الدرامية، في رياض الأطفال، ومدى القابلية لتنمية الإبداع ــ المجلة الدولية للأبحاث التربوية ــ العدد 28 ــ دورية مُحكِّمة ــ تصدر عن جامعة الإمارات العربية المتحدة.
2- إيفانز، جوديت، ومايرز، روبرت، وإلفيلد، إيلين (2005م ): احتساب الطفولة (دليل برمجة ورعاية وتنمية الطفولة المُبكِّرة) ــ منشورات البنك الدولي، بالتعاون مع اليونسكو.
3- دوتي، جوين ( 2007م): تنمية الذكاء العاطفي من الروضة إلى الصف الثامن (استراتيجيات مُمكنة، وأنشطة مُصممة للتطبيق) ــ ترجمة/ قرعان، مها ــ منشورات مؤسسة عبد الحميد القطان ــ رام الله (فلسطين).
4- سليم، مريم داود (بدون تاريخ): قياس وتقييم النمو العقلي والمعرفي في رياض الأطفال.
5- بدران، شبل (2000م): الاتجاهات الحديثة في تربية طفل ما قبل المدرسة ــ آفاق تربوية مُتجددة ــ الدار المصرية اللبنانية ــ بيروت.
6- زلط، أحمد (1994م): أدب الطفولة، أصوله ومفاهيمه ــ الطبعة الثانية ــ القاهرة.
7- الشربيني، زكريا، وصادق، يسرية (2002م): أطفال عند القمة ( الموهبة ــ التفوُّق العقلي ــ الإبداع) ــ الطبعة الأولى ــ دار الفكر العربي ــ القاهرة.