في هذه الدولة الصغيرة نسبيًا، يوجد 350 مصرفًا، حجم الأموال الأجنبية فيها لا يقل عن 700 مليار دولار أمريكي، وتشير بعض الإحصائيات إلى أن الأموال القادمة من العالم العربي، والمستقرة في حسابات سويسرية، تبلغ قيمتها حوالي 50 مليار دولار، الحصة الأكبر منها من المملكة، تتبعها دولة الإمارات العربية المتحدة. وتشير تقارير صحفية سويسرية إلى أن ثلث الثروات العالمية موجودة في هذه البنوك، فما السبب وراء ذلك؟
البروفيسور رولف بينس، أستاذ القانون الاقتصادي بالمعهد العالي للعلوم التطبيقية بزيوريخ، قال في حديث لموقع (سويس إنفو)، إن إقبال الأجانب على إيداع أموالهم في المصارف السويسرية يعود في الأساس إلى المزايا التالية: الاستقرار السياسي، والعملة المستقرة، والنظام القانوني، وانعدام الفساد الإداري تقريبًا.
يرى الكثيرون أن (السرية المصرفية) التي تلتزم بها البنوك السويسرية، هي أهم الدوافع لاجتذاب الأموال من الخارج، وتدور قصص خيالية كثيرة عن حسابات عبارة عن رقم، لا يعرف البنك من وراء هذا الرقم، ولا مصادر أمواله، سواء كانت من تجارة المخدرات، أو الرشا، أو أموال شعب جائع، سرقها الحاكم الفاسد، أو إتاوات حصلت عليها عصابات المافيا، كلها تلتقي في سويسرا، فلا تصل إليها يد القضاء، ولا يقدر الشعب على استردادها، حتى ولو سقط الحاكم.
إلا أن المصادر الرسمية السويسرية، تنفي بشدة هذه المزاعم، وتؤكد أنه لا يمكن فتح أي حساب، دون معرفة صاحب الحساب الفعلي، والتأكد من هويته، ومعرفة مصادر دخله، ومقارنة هذه المعلومات بما يقوم بإيداعه، وحتى في حالة وجود وسطاء، يتولون إدارة الأموال، فإن البنوك تصر على كشف هوية أصحاب الودائع الحقيقيين، وكذلك الحال بالنسبة للأموال التي تأتي إلى هذه البنوك، وأي تغير في الحالة المالية لصاحب الحساب، أما قصة الحسابات الرقمية، فهي موجودة بالفعل، بحيث لا تتسرب معلومات عن صاحب الحساب، لكن عددًا محدودًا من العاملين في البنك، يكون على اطلاع ومعرفة بالشخص، الذي يقف وراء هذا الرقم.
المشكلة الكبرى التي تعرضت لها البنوك السويسرية في السنوات الأخيرة، هي كيفية التعامل مع العملاء الأجانب المتهربين من دفع الضرائب في بلادهم، فقد أدى وجود حسابات لحوالي 52000 مواطن أمريكي، إلى مشكلة ضخمة، بل اعترف أكبر بنك سويسري، وهو (يو بي إس) بأنه شجع مودعين أمريكيين على التهرب من الضرائب في بلادهم، واضطر البنك إلى دفع غرامة مقدارها 750 مليون دولار، وتسليم قائمة بأسماء 300 عميل أمريكي متهمين بالتهرب من الضرائب.
أما الجارة الكبرى، ألمانيا، فقد سلكت طرقًا لم تكن تخطر على البال قبل سنوات، وهي اللجوء إلى شراء بيانات مسروقة من البنوك السويسرية، تحتوي على أسماء مواطنيها، الذين يودعون أموالهم في حسابات في هذه البنوك، للتهرب من دفع الضرائب، وأصبح المودعون الألمان يتسابقون على تقديم بلاغات بأنفسهم لدى سلطات التحقيق، للاعتراف بما قاموا به، وطلب التصالح بدفع الضرائب المستحقة، وأي غرامات إضافية، للنجاة من صدور أحكام بسجنهم.
ورغم قيام سويسرا بعقد اتفاقيات ثنائية مع ألمانيا، بأن تتولى البنوك السويسرية، بتحصيل الضرائب من عملاء الدولة من المنبع، ونقل هذه الأموال، دون الإفصاح عن هوية أصحابها، ورغم توقيع سويسرا اتفاقيات منع الازدواج الضريبي مع 18 دولة، إلا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يمارسان المزيد من الضغوط على سويسرا، بهدف الوصول إلى تبادل كلي للمعلومات عن العملاء، وهو الأمر الذي ترفضه سويسرا بشدة، لأنه يعني عمليًا، انتهاء (السرية المصرفية)، وفقدان البنوك السويسرية للكثيرين من مودعيها الأجانب، الذين سيفتشون عن (واحات ضرائبية)، تخفي معلوماتهم عن بلادهم الأصلية.
الأمر لا يخلو من الإثارة في كثير من الأفلام، التي تصور الحساب السويسري، الذي يعمل بالبصمة الصوتية، أو بكف العميل، ولجوء العصابات إلى تسجيل صوت العميل، أو فصل كفه عن جثته، لوضعها على المكان المخصص لذلك، قبل فتح الصندوق الذي يضم ملايين الدولارات، والمجوهرات. كما تحدثت الصحف في الشهور الأخيرة، عن أموال الزعماء العرب، الذين طردتهم شعوبهم من على كراسي الحكم، وصدرت أرقام خيالية، تدل على أن الكثيرين لا يعرفون أن المليار، عبارة عن رقم 1، تسبقه تسعة أصفار، وأن امتلاك 70 مليار، يعني أن هذا الحاكم أو ذاك، كان يحتفظ بدخل الدولة بالكامل، لعقود طويلة، ولا ينفق منها شيئًا على بلاده، وهو طبعًا أمر غير قابل للتصديق.
وحتى لا يختلط الواقع بالخيال، ولا نمدح البنوك السويسرية أو نذمها عن جهل، كان الحديث التالي، مع الدكتور/ خالد النجار، المستشار المالي بالبنوك السويسرية حاليًا، والمدير السابق لفرع (دويتشه بنك) فرع سويسرا، في الشرق الأوسط، وهو الذي بدأ العمل مع البنوك السويسرية منذ أكثر من 20 عامًا، مستعينًا بدراسته في العالم العربي والولايات المتحدة وألمانيا، حتى حصل على الدكتوراه من جامعة بون الألمانية، ومعتمدًا على خلفيته المصرفية الإسلامية منذ الصغر، لأن والده الدكتور/ أحمد النجار، هو صاحب أول نظرية في البنوك الإسلامية، وهو الأب الحقيقي - كما يرى الكثيرون - للعمل المصرفي طبقًا لأحكام الشريعة الإسلامية.
• لماذا يقترن اسم سويسرا عادة بالسمعة السيئة؟
- بالعكس، سويسرا تلتزم بجميع المعايير البنكية الدولية، قد يؤدي حفاظ سويسرا على سرية عملاء بنوكها، بالطرق القانونية السليمة، ووضع عوائق أمام الحصول على معلومات عن أي عميل يتعامل مع البنوك في سويسرا، إلى إساءة البعض فهم ذلك، فيرون فيه محاولة من سويسرا لمساعدة الأشخاص على تخبئة أموالهم، مع أن المفروض على مستوى العالم أن يتم الحفاظ على سرية معلومات العميل المصرفي، وعدم الكشف عنها إلا حسب مقتضيات قانونية معينة.
• ولماذا تعتبر سويسرا قلعة البنوك؟
- يرجع هذا إلى وجود قمة الحرفية في إدارة الأموال على مستوى العالم، فأغلب الخبرات العالمية تصب في سويسرا، مما جعلها المركز الدولي في إدارة الأموال.
• تتحدث عن إدارة الأموال، فهل معنى ذلك أن الأمر لا يتعلق بتخبئة أموال شرعية أو غير شرعية؟
- طبعًا الأمر لا علاقة له بتخبئة أموال، بل بإدارة الأموال.
• هل من الممكن أن تشرح للقارئ معنى إدارة الأموال، باعتبارك خبيرا في هذا المجال؟
- معنى إدارة الأموال هو أن شخصًا أو مؤسسة عندها سيولة زائدة عن حاجتها، وبعد إبلاغ الشروط التي يضعها العميل، تقوم المؤسسة المالية بإدارة هذه الأموال، إما بالحفاظ عليها أو بزيادتها أو بالمضاربة بها.
• ما علاقتك بالبنوك السويسرية؟
- كنت أعمل في أكبر مصرف ألماني، وانتقلت إلى سويسرا عام 1990، وبقيت منذ ذلك الحين أعمل في بنوك سويسرية.
• لماذا يعمل بنك ألماني داخل سويسرا؟
- كل بنوك العالم الكبرى تحرص على أن يكون لها وجود داخل سويسرا، بسبب ما ذكرته من وجود حرفية عالية هناك، فالموظفون الموجودون هناك متخصصون في هذا المجال، والكفاءات الموجودة هناك عالية جدًا، علمًا بأن سويسرا لا تسمح لأي بنك بأن يكون له فروع في أراضيها، وهذه الفروع العاملة في سويسرا لا يحق لها تزويد المقر الرئيس للبنك ببيانات العملاء، بل تكتفي بذكر الأرقام الإجمالية فقط ، دون خوض في تفاصيل العملاء، بسبب القيود القانونية في سويسرا.
• لماذا يتوجه صاحب رأس المال لمستشار مالي مستقل، ولا يذهب للبنك مباشرة، في حين أن هناك مختصين في إدارة الأموال داخل كل بنك؟
- عندما يكون لدى الشخص أموال للاستثمار، فإنه يسعى للحصول على العائد المناسب لاستثماراته مقابل المخاطر التي يقبلها، ويكون دور المستشار المالي هو محاولة التوفيق بين طرفي هذه المعادلة الصعبة.
• هل يمكن أن توضح خطوات إدارة الأموال؟
- أولاً يقوم البنك بتحليل رغبات العميل، وفي الغالب يريد العميل الحصول على أعلى نسبة من المكسب مقابل أقل معدل من المخاطرة، فيطلب ضمانات على رأس المال، ونسبة ربح عالية، وهذا طبعًا أمر غير موجود، لأن أي مكسب يفوق حجم الودائع فيه مخاطرة، ومهمة المستشار المالي أو البنك أن يتوصل إلى المعادلة المناسبة بين حجم المخاطر ونسبة المكسب المرجوة.
• أعطني أمثلة على ذلك!
- المواطن العربي إذا وضع وديعة في مصرف بلده يأخذ نسبة 3 – 4 %، علمًا بأنه كان يحصل في فترات سابقة على 6 – 7 %، ويعتبر أن ذلك العائد ليس فيه أي نوع من المخاطر لأنه يعرف استقرار الأوضاع في بلاده، في نفس الوقت الذي يعتقد صاحب رأس المال السويسري أو الألماني بأن وضع أمواله في منطقة الشرق الأوسط بمثابة مخاطرة عالية بالنسبة له، أي أن الأمر هو التوفيق بين المكسب وبين المخاطرة التي يقبلها العميل.
• هل يصل تأثير الأزمات العالمية – مثل الأزمة العقارية في أمريكا وغيرها – إلى البنوك السويسرية أم أنها بمنأى عنها؟
- أصبح العالم اليوم ملعبًا واحدًا، مترابطًا بصورة وثيقة، ومدى الارتباط بهذا الطرف أو ذاك هو الذي ينعكس على مدى التأثير، فإذا نظرنا إلى البنوك الألمانية التي كانت تدعي أنها بنوك محافظة، ولا تستثمر أموالاً في مجالات ذات مخاطر عالية، وجدنا أنها استثمرت في العقارات بشكل كبير جدًا، واضطرت الحكومة الألمانية إلى التدخل ومساعدة هذه البنوك حتى لا تعلن إفلاسها مثل «الدريسدنر بنك» و «كوميرتس بنك».
• دائمًا نسمع عن أموال عربية ضخمة موجودة في الخارج، ويرى البعض أنه لو استثمرت هذه الأموال في الوطن العربي لتحقق الرخاء للجميع. فهل ترى أن هذا الرأي منطقي، أم أنه تفكير رجل الشارع غير المتخصص؟
- أولاً: الدول العربية إجمالاً لا تمتلك الأدوات الحديثة لاستثمار وإدارة الأموال، هناك أدوات استثمار لكنها محدودة، فأدوات الاستثمار المتوفرة في العالم العربي هي الأسهم أو السندات أو الودائع، وهي أدوات محدودة جدًا بالمقارنة بما هو موجود عالميًا، علمًا بأن الاستثمار في الأسهم عالي المخاطرة جدًا، ولا يتناسب مع كل شخص، إضافة إلى أن حجم السوق العربي صغير جدًا بالنسبة للعالم الغربي. وحسب علمي فإن إجمالي الناتج القومي العربي غير البترولي للمنطقة العربية بأكملها أقل من نظيره في إسبانيا وحدها، فإذا كان لدى المستثمر سيولة كبيرة جدًا، لا يضعها في سوق تعادل حجم ما لديه من سيولة، لأن ذلك يعرضه إلى مخاطرة كبيرة، وهناك حقيقة هامة هي أن كل مستثمر يحب أن يقوم بتنويع المخاطــر تبعًا لمبدأ (عدم وضع البيض كله في سلة واحدة)، أي تنويع المناطق الجغرافية التي يستثمر فيها، وتنويع العملة التي يستثمر بها، وتنويع مديري الأموال الذين يستثمرون أمواله، لأن وضع الأموال كلها في منطقة واحدة يمكن أن يؤدي إلى كارثة، إذا حدثت مشكلة في هذه المنطقة، ولذلك فإن أغلب المستثمرين يكون لديهم إما عقارات في المنطقة التي يقيمون فيها، أو استثمارات مباشرة في المصانع أو المؤسسات، فيفضلون وضع السيولة المالية في منطقة جغرافية مختلفة عن المنطقة التي يقيمون فيها، علاوة على أن المنطقة العربية كلها مرتبطة بالدولار ويريد كثير من المستثمرين وضع جزء من أموالهم بعملات أخرى.
• بعض الدول الخليجية تستثمر أموالاً للأجيال القادمة، مثل الكويت، فهل يقوم استشاري أموال مثلك أم البنوك بإدارة أموال الدول أيضًا، مثلما تفعل مع الأفراد؟
- الاستثمارات على مستوى الدول شيء مختلف، لأنه تكون هناك ( صناديق سيادية)، هي التي تتعامل مع السوق الخارجي بناءً على مؤشرات أو معايير يحددها مجلس إدارة هذا الصندوق.
• مثلما فعلت قطر عند شراء أسهم شركة فولكس فاجن لإنتاج السيارات الألمانية؟
- نعم، وكذلك فعلت دولة الإمارات في استثمارات مشابهة، لأنها كانت فرصة، في ظل الأزمة المالية العالمية، أن تبحث عن استثمارات في المؤسسات الجيدة القوية، فهناك حكمة تقول: «استثمر في الأوقات السيئة، وأخرج أموالك من السوق في الأوقات الجيدة»، إنه أمر صعب جدًا على الأشخاص، لأن الأوقات الجيدة تغري الأفراد وتجعلهم متحمسين للاستثمار، على عكس الأوقات السيئة التي تثير المخاوف من الاستثمار.
• ما رأيك في القطاع المصرفي السعودي؟
- حدثت طفرات في القطاع المصرفي السعودي في الفترة الأخيرة، وأصبح أكثر انفتاحًا على المنقطة العربية والغربية، وسُمح للبنوك الأجنبية بالدخول إلى المملكة وبأن يكون لها وجود هناك دون شريك سعودي مثل الدويتشه بنك، وغيره من البنوك غير الخليجية، وهذا يؤدي إلى مزيد من التنمية في السوق السعودي، لأن دخول أعضاء آخرين جدد لهم خبرة عالمية إلى السوق المحلية يزيد من المنافسة، ويرفع المستوى العام في هذا السوق.
• هل يعني ذلك أن نتوقع زيادة الحرفية التي تحدثت عنها بشأن البنوك السويسرية؟
- بالتأكيد، مع التنبيه إلى أن المملكة تتميز بالاستثمار الإسلامي، فالمواطن السعودي يرغب عند استثمار أمواله أن يتم ذلك تبعًا للشريعة الإسلامية، وهناك مجموعة من المؤسسات العالمية التي تحاول أن تلبي هذا الطلب، ولكن ذلك مازال في مرحلة التطور. لقد تحققت طفرة في السنوات العشر الأخيرة، لكن مازالت هناك حاجة إلى مزيد من التطوير حتى يصل إلى المستوى الغربي.
• إذ كنت تحدثت عن الترابط الكوني، وأن الاستثمارات لا تعرف الحدود، فكيف يمكن الاستثمار عالميًا، دون دخول الاستثمارات في شركات إنتاج الخمور أو لحوم الخنزير أو إنتاج أفلام منافية للآداب؟
- هناك هيئة رقابة شرعية لكل فرع إسلامي في البنوك العالمية، أو في كل بنك إسلامي، وهناك من ينشئ أدوات إسلامية للاستثمار، ولا يستطيع المصرف وضع صفة استثمار إسلامي، إلا إذا حصل عل فتوى من هيئة رقابة شرعية معترف بها.
• ما هي أكبر البنوك السويسرية، وهل تعمل في خارج حدود بلادها؟
- يوبي أس ، وكريدي سويس، وهي بنوك لها فروع في خارج سويسرا، لكن معظم أعمالها داخل سويسرا.
• دائما يثار موضوع وجود حسابات عليها شبهات في سويسرا، هل يمكن فتح حساب دون أن يكون معلوما من وراء هذا الحساب؟
- لا، لابد أن يكون صاحب الحساب معلوما للمصرف، ولكن علينا أن نفرق بين أمرين: البنك عليه دور في التأكد من مصدر الأموال في أي مكان في العالم، فإذا جاء شخص يريد أن يفتح حسابًا، يقوم البنك بالاستعلام عنه، ويتأكد من الأموال المرغوب إيداعها من قبل هذا الشخص، وهل تتناسب مع المعلومات التي حُصل عليها عن هذا الشخص، وهناك قوانين في بعض الدول الغربية تسمح بإنشاء مؤسسات لتخفيف العبء الضرائبي، مثل إنجلترا وأمريكا، هناك ضرائب شركات تصل إلى 50 % ، فيكون مسموحًا لك بإنشاء (مؤسسة ائتمانية)، وتضع فيه ممتلكاتك. وعند فتح حساب مصرفي باسم هذه المؤسسة، لا يكون من السهل معرفة من وراءه، علمًا بأن ذلك أمر متعارف عليه عالميًا، ولا يشكل أي مخالفة قانونية على الإطلاق.
• هل يرفض البنك السويسري فتح حساب بأموال يعلم أن مصادرها غير قانونية؟
- طبعًا، كثيرًا ما يحدث ذلك، بل أحيانًا يكون هناك عملاء عند البنك، ثم تصل معلومات سلبية عنهم، فيطالبهم البنك بمغادرته خلال فترة معينة، وأعطيك على ذلك أمثلة: حدثت لأحد أكبر المصارف السويسرية مشكلة مع الولايات المتحدة، عندها طلب من المودعين الأمريكيين لديه سحب أموالهم في خلال فترة قصيرة، والسبب في ذلك أن البنك توقع أن يؤدي استمرار وجود هؤلاء العملاء إلى مشاكل سياسية بين البلدين، وأن يكون وجودهم أداة لممارسة ضغوط سياسية على سويسرا، وهناك أمثلة أخرى مثل فرض الأمم المتحدة حظرًا للتعامل مع ليبيا أو سوريا أو السودان، فتطلب البنوك السويسرية من العملاء القادمين من هذه الدول عدم التعامل معها، طالما أن أموالهم قادمة من دول مفروض عليها حظر، أو أن يكون هناك عميل في البنك، ويظهر أنه يتعامل في أشياء غير قانونية، وفور وصول هذه المعلومات إلى البنك يطالبه بمغادرة البنك مباشرة.
• تحدثت عن استغلال دولة ما لوجود عملاء في بنوك سويسرا لممارسة ضغوط سياسية، فهل تعتبر ما قامت به ألمانيا للوصول إلى مستحقات الضرائب عن المودعين الألمان في البنوك السويسرية من هذا القبيل؟
- أولاً، لابد أن أوضح أن البنوك ليس من واجبها التأكد مما إذا كان العميل يدفع الضرائب على أمواله إلى بلده أم لا ، وليس من المفروض أن يكشف البنك عن معلومات العملاء لأي جهة، إلا إذا قام شخص بارتكاب تجاوزات قانونية وصدرت في حقه أحكام قضائية، وطالب القضاء البنك بكشف معلومات العميل المدان، فإن البنك يقوم بذلك، لكن لا يكفي أن تدور شبهات حول شخص ما أو القول بأن القادمين من دولة ما هم متهربون من الضرائب لانتهاك سرية حسابات هؤلاء العملاء.
• هل لهذا السبب يتم إطلاق اسم (واحة ضرائبية) على سويسرا وغيرها ممن يحجب معلومات العملاء من المتهربين من الضرائب عن بلادهم الأصلية؟
- لا، هناك حقيقة تتمثل في اختلاف نسبة الضرائب من دولة لأخرى، فيحاول أصحاب رؤوس الأموال البحث عن الدول ذات نسبة الضرائب الأقل، وهذا ما يدفع بعض الشخصيات غير السويسرية إلى نقل محل سكنها إلى هناك لتخفيف حجم الأموال المدفوعة كضرائب، وبغض النظر عن مشروعية هذه الإجراءات من عدمها بالنسبة للأشخاص، فإن البنك ليس مكلفًا بأن يقوم بدور رقابي في هذا الشأن. ما حدث بين ألمانيا وسويسرا، أن ألمانيا طالبت سويسرا بإبلاغها بأسماء جميع المودعين الألمان في البنوك السويسرية، وهو ما رفضته سويسرا تمامًا، لأن هذا الطلب لا يستند على أساس قانوني، لكن تم الاتفاق على أن أي شخص ألماني يعمل في سويسرا وعنده حسابات هناك، أن يعطي الحق للبنك بأن يبلغ جهة الضرائب عنه، فإذا رفض، يمكنه السماح للبنك بخصم قيمة الضرائب من المنبع وتسليمها لسلطات الضرائب الألمانية بدون ذكر اسم العميل، وبهذا أمكن حل مشكلة ألمانيا، بالحصول على الضرائب المستحقة على كل ألماني حتى ولو كان يقيم في الخارج.
• ما رأيك في قيام دول مثل ألمانيا وغيرها بدفع أموال لأشخاص يقومون بسرقة معلومات عملاء البنوك السويسرية وغيرها، لملاحقتهم قانونيًا والحصول على الضرائب منهم؟
- طبعًا هذا سلوك غير قانوني، لأنك بذلك تدفع أموالاً لشخص حتى يقوم بارتكاب جريمة، ومن ناحية المبدأ لا يجوز أن تعالج جريمة التهرب من دفع الأموال بجريمة الحض على سرقة معلومات من البنوك، ومن رأيي أن ذلك من الناحية القانونية غير مقبول.
• سويسرا تعتبر نفسها جزيرة، لا تنضم لكثير من التحالفات ولا الاتفاقيات السارية في الدول المحيطة بها، فهل كان قرار عدم انضمام سويسرا إلى وحدة النقد الأوروبية قرارًا صائبًا؟
- اختارت سويسرا منذ إنشائها أن تكون دولة محايدة، وهذا الحياد له ثمن، وعند إنشاء السوق الأوروبية فضلت سويسرا أن تحافظ على حيادها، وعندما تم إصدار وحدة النقد الأوروبية فضلت أيضًا أن تحافظ على حيادها، هذه الميزة السويسرية تجعلها تتعامل مع جميع التكتلات في الشرق والغرب بهذا الحياد.
• ولم يضر اقتصادها قوة (الفرنك)؟
- بالعكس لقد أفادها ذلك.
• إذا لماذا قامت بتخفيض قيمة عملتها أمام اليورو؟
- لأن سويسرا تعتمد على التصدير، فهو المصدر الرئيس لدخل الدولة، لأن حجم الإنتاج في سويسرا أكبر بكثير جدًا من حاجة السوق المحلي، إذا العملة القوية تتسبب في أضرار للتصدير، وهو اتجاه عالمي أن تسعى كل الدول إلى جعل قيمة عملتها لا تعوق التصدير.
• أي أن سويسرا لن تقرر التخلص من الفرنك والانضمام للعملة الأوروبية الموحدة (اليورو)؟
- لا أعتقد ذلك أبدًا.
• هل يسرى نفس الأمر على بريطانيا؟
- الوضع في بريطانيا مختلف، هناك تفكير جدي هناك في الانضمام إلى الوحدة النقدية الأوروبية لكن التوقيت الحالي غير مناسب لهذه الخطوة، العالم اليوم عالم تحالفات، وبريطانيا حاولت أن تكون في تحالف مع الولايات المتحدة اقتصاديًا، ولكن البعد المكاني حال دون ذلك، الولايات المتحدة في تحالف مع المكسيك وكندا، وفي أوروبا السوق الأوروبي، وبريطانيا أصبحت واقعة بين الاثنين، لكن من الناحية الجغرافية والاقتصادية والتاريخية بريطانيا أقرب للسوق الأوروبي أكثر من أمريكا، ولذلك من مصلحة بريطانيا أن تنضم إلى العملة الأوروبية.
• هل يمكن أن تفقد سويسرا جاذبيتها لأصحاب رؤوس الأموال في ظل الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة وألمانيا وغيرها لخرق سرية الحسابات هناك؟
- لا أعتقد أن ذلك وارد، وأعود لما ذكرته في بداية حديثنا من أن حرفية إدارة الأموال لا مثيل لها عالميًا، ورغم وجود بعض المناطق العالمية التي تفتح البنوك للمساعدة على التهرب الضريبي، والتي لم تتعرض بعد للضغوط التي تعرضت لها سويسرا، لكن ذلك لن يحول دون احتفاظ سويسرا بمكانتها القيادية في القطاع المصرفي، لأنها سبقت غيرها بمراحل كثيرة.
• كيف استطاعت سويسرا أن تحتل هذه المكانة المتفوقة في القطاع المصرفي ؟ لماذا أفضل ساعات في العالم الساعات السويسرية، وأفضل شيكولاته من سويسرا، لماذا يكون المنتج السويسري متميزا دوما بالإتقان؟
- أنت أجبت جزئيًا على السؤال، لأن الشخص السويسري دقيق بطبعه، وهذه الدقة مع الكفاءة العالية تجعله يسبق غيره في هذا المجال. فمجال الاستثمار البنكي متقدم في بريطانيا وأمريكا، خاصة لندن ونيويورك المتفوقتين في الاستثمار البنكي، الذي يحتاج إلى هيكلة معينة، وهو ما لم تسع سويسرا للقيام به، إن قوة سويسرا تأتي من البنوك الصغيرة التي تدير الأموال بحرفية شديدة جدًا، وتكون إدارة الأموال بناءً على علاقة شخصية بين مدير المال وبين صاحب المال.
• أي أن عمل هذه البنوك يعتمد على هذه العلاقة الفردية بين الطرفين وتقديم المشورة الصائبة للمستثمر؟
- نعم، هذا صحيح.
• هل الاستقرار في سويسرا، رغم عدم انضمامها لتحالفات قوية، يسمح لنا بالقول إن الاستثمار في سويسرا، هو استثمار آمن؟
- بالتأكيد. الاستثمار في سويسرا آمن، لأنه في دولة عندها فائض في الموازنة، عندها فائض في الميزان التجاري، اقتصادها قوي، إنتاجية الفرد فيها عالية جدًا. هذه العوامل تدعم الاقتصاد ككل، ضع ذلك إلى جانب ما تتمتع به سويسرا من استقرار سياسي واقتصادي. لقد أصبح أمرًا نادرًا على المستوى العالمي أن تجد منطقة فيها ذلك، ويكفي أن الولايات المتحدة أشرفت على إعلان إفلاسها مرتين في عام 2011 لولا إصدار الكونغرس قرارات جديدة تؤجل هذا الأمر، أغلب الدول الأوروبية تعرضت إلى تخفيض تقييم أوضاعها المالية، بسبب ارتفاع المخاطر فيها، وهي أمور بعيدة جدًا عن سويسرا، والجميع يتمنى الآن لو كان وضع استثماراته في الفرنك السويسري، لأن الفرنك السويسري استمر في الزيادة المطردة، وبعد أن كان سعر الدولار 1.6 فرنك ، أصبح حاليًا 0.8 أي أن قيمة الدولار انخفضت أمام الفرنك بنسبة 50 % ، حتى أن سويسرا بدأت تشعر بعبء زيادة قيمة عملتها على الصادرات، التي أصبحت غالية جدًا، وعندها تدخل البنك المركزي السويسري وقال: هذا يكفي.
• تحدثت عن الحرفية العالية جدًا في البنوك السويسرية، وأن أفضل العناصر فقط هي التي تشق طريقها إلى قلعة البنوك، فكيف استطاع شخص عربي مثلك الوصول إلى مناصب مرموقة في البنوك السويسرية، مثل مدير الدويتشة بنك فرع سويسرا في الشرق الأوسط بأكمله وغير ذلك من المناصب؟ وهل أنت حالة فريدة أم أن هناك عربا آخرين وصلوا إلى هناك؟
- بالتأكيد توجد مجموعة كبيرة من الكفاءات العربية التي تعمل في سويسرا، خاصة في مجال إدارة الأموال ذات الأصول العربية، وهم شباب درسوا في الدول العربية، وعندهم التزام، واستطاعوا إثبات قدرتهم على التعامل في هذا السوق، تبعًا للمعايير السائدة فيه، ولذلك فإنك تجد في جنيف وزيوريخ وجميع المدن السويسرية الكبرى مجموعة لا بأس بها من العرب في كل مؤسسة مصرفية سويسرية.
• معنى ذلك أن عدم وجود نظام مصرفي متطور في العالم العربي لا يرجع إلى انعدام الكفاءات من العرب المؤهلين للعمل في هذا المجال. فهل يرجع ذلك إلى سوء الأنظمة أم قلة القوانين المنظمة للعمل المصرفي، أم ما السبب؟
- دعني أقل لك إن هناك تطورا تاريخيا، فالبنوك بدأت في العالم الغربي قبل العالم العربي بمراحل كثيرة، في الوقت الذي كان العالم العربي يعاني من الاستعمار وغيره، إضافة إلى أن وضع التعليم في العالم العربي، يحتاج إلى الكثير من الاهتمام، حتى تكون هناك كفاءات أكثر. أعتقد أن الأمر هو مسألة وقت حتى يتطور الوضع في العالم العربي ويلحق بالمستوى السويسري.
• حتى لا نحتاج إلى سنوات طويلة كما فعلت المصارف الغربية، ماذا تقترح حتى يحدث التطور الكبير في القطاع المصرفي في العالم العربي؟ هل يكون ذلك باستقدام كفاءات من سويسرا لتدريب العاملين في القطاع المصرفي في المملكة أو غيرها؟ أم ترى أن انفتاح السوق السعودي أمام المصارف العالمية سوف يسهم في الارتقاء بهذا القطاع؟
- الأمر عبارة عن حزمة أدوات: فتح الباب أمام البنوك الأجنبية لدخول السوق المحلي يسهم في نقل الخبرة، عودة العرب الذين عملوا في البنوك الأجنبية للعمل في السوق المحلي يزيد الخبرة، استقدام خبراء لديهم مهارات ليست موجودة في المنطقة العربية يسهم أيضًا في تحقيق الهدف. لكن لابد من الاعتراف بعدم القدرة على تحقيق قفزات هائلة مرة واحدة، ربما يكون التطور بنسبة محدودة، لكن اكتساب الخبرة يحتاج إلى بعض الوقت، ولا يكفي ما يتعلمه الشخص من كتاب بل يحتاج إلى الخبرة العملية، وخصوصًا أن المنطقة العربية تحاول التوجه إلى الاستثمار الإسلامي، وهو مجال لا توجد فيه خبرات عالمية كبيرة، أي أن العمل جار على تطوير أدوات لم تكن موجودة من الأصل، الأمر الذي سيستغرق بعض الوقت.
•القيود التي تفرضها البنوك مثل منع العميل في مصر حاليًا من سحب مبلغ يفوق 10 آلاف دولار في اليوم، هل تؤثر هذه القيود سلبًا على الاستثمار المالي؟
- طبعًا، لأن رأس المال يستشعر الخوف، وعند وضع قيود على السحب أو غيره يبدأ صاحب المال في الشعور بعدم الاطمئنان، ودعنا نقل إن مصر مرت بمراحل كان المستثمرون السويسريون يأتون بأموالهم إليها، لوجود فرص استثمارية جيدة جدا فيها، لأن طرق الاستثمار في مصر حظيت بتسهيلات كثيرة جدًا، أما في الوضع الحالي منذ الثورة فإنه من الطبيعي أن يسعى البنك المركزي والسلطات التشريعية لاتخاذ إجراءات مؤقتة، إلى أن تأتي حكومة منتخبة وتأخذ القرارات المناسبة تبعًا لأوضاع السوق.
• هل يمكن أن نقول إجمالاً أن الثورات وما يسمى بالربيع العربي أثّر سلبيًا على الاستثمارات الأجنبية في الدول التي شهدت هذه الأحداث؟
- وقت حدوث الثورة، كان هناك بعض الاضطراب، فيخاف رأس المال الأجنبي، فأنت إذا استثمرت في دولة أجنبية، ثم شعرت باضطراب فإنك تسحب أموالك وترحل، أو تقوم بتجميد استثماراتك، أو يجري تجميدها ضد رغبتك، وعندما يزول هذه الاضطراب فإنك تبحث عن فرص استثمارات مناسبة، وتضخ أموالاً أخرى. هذا تطور طبيعي جدًا.
• سؤال شخصي : هل عملك الحالي يعني أنك تقوم باستثمار أموال عربية في سويسرا؟
- اليوم الاستثمار في البنوك السويسرية لا يعني أن تستثمر أموالك داخل الأراضي السويسرية. في كثير من البنوك التي عملت فيها، كنا نستثمر في البورصة المصرية، لوجود فرص استثمار جيدة في شركات مربحة، وارتفاع احتمالات الحصول على عوائد مناسبة عند الاستثمار في هذه الشركات. وكذلك كنا نضع أموالاً في البنوك المصرية والقطرية والإماراتية، لأن العائد مقابل المخاطر كان جيدًا جدًا. وعملنا صناديق للاستثمار في المنطقة العربية. أي أنه يمكن استثمار أموال عربية في المنطقة العربية من خلال مدير مالي يعمل في سويسرا يبحث عن الفرص الجيدة ويستثمر فيها الأموال سواء كان صاحب المال عربيا أو غربيا.
• ما ميزة مدير أموال من المنطقة العربية؟
- الميزة أنه يعرف جيدًا احتياجات الأفراد من المنطقة العربية، وما يمكن أن تقدمه له البنوك السويسرية، هذا يُسهل الأمور جدًا، أما الشخص الذي لم يسبق له التعامل مع البنوك السويسرية فإن تخيلاته تكون غير واقعية. والبنوك السويسرية من جانبها لها حدود، ولا تستطيع أن تعطيك أكثر من الواقع.